نغرق بالماديات أحياناً، باليوميات، بالذهاب إلى الحلاق، والانشغال بالسبّاكين والدكاكين، والتموينات، وأسعارالسلع. تذهب بنا رياح الحياة عن أرواح الذات. من بين الأشياء التي تحقق الطمأنينية في النفس الالتفات إلى الروح التي ترفرف بين أكتافنا. أن نشحذها بمحض النصح، أو أن نقرصها بحادّ النقد. فالروح هي نحن من دون رتوش. تحقق لنا الأيام الفضيلة نعمة العودة إلى أرواحنا. أن نكون أقرب إلى أنفسنا من قرب الأشياء إليها. المناسبات الروحية تحقق لنا فضائلنا الذاتية. إنها أيام الله الروحانية، أيام الحج.
منذ الصغر كان التلفزيون السعودي يخصّ أيام الحج ببثّ مطوّل، منذ يوم التروية، مروراً بيوم عرفة، ذلك اليوم المهيب حيث تبثّ الخطبة، والتي اشتهر سماحة المفتي بإلقائها منذ أن كان عضواً في هيئة كبارالعلماء، وحتى أصبح مفتياً منذ عقدٍ من الزمن، وتكون خطبة عرفة غالباً محاطةً بطقوس البيت. حيث يصام هذا اليوم، وتكون فيه أجساد الحجاج محاطةً برداءٍ وإزار. ويكون اليوم مثل بقية أيام الحج مسكناً للروح. وتنظر إلى عيون الناس وهي تبتهل إلى الله بالدعاء والتقرّب. إن الأيام المتصلة بالروح هي التي تحفزنا على أن نكون أكثر طهرانيةً من الداخل كما نتطهّر من الخارج. إنها “عرفات الله” كما وصفها أحمد شوقي بقوله:
إلى عَرَفـاتِ اللهِ يـا خَـيرَ زائِرٍ * عَلَيكَ سَـلامُ اللهِ في عَرَفـاتِ
وَيَومَ تُوَلِّي وِجهَةَ البَيتِ نـاظِرًا * وَسيمَ مجَال البِشرِ وَالقَسَماتِ
عَلى كُلِّ أُفْقٍ بِالحِجازِ مَلائِكٌ * تَزُفُّ تَحـايـا اللهِ وَالبَرَكاتِ
ثم يأتي يوم العيد وأيام التشريق؛ أيامٌ تغذي الروح بفضائل السكينة، بعد أن طحنتها يوميات الحياة المادية. إن الأيام الروحانية تغسل الروح من أساسها، تجعلها أكثر بياضاً ونقاءً. إن أيام الله هي تلك التي يشعر بها الناس بالقرب من أنفسهم من خلال تطهّر أرواحهم، تكون أرواحهم الشفيفة في حالة فيضٍ وإلهام، وفي حالة نشوةٍ روحيّة عذبة.
قال أبو عبدالله غفر الله له: لتكن هذه الأيام الروحانية فضاءً رحباً، لنعرض ذواتنا على ضوء روحانية هذه الأيام، لترى -الأروواح-النور في ذاتها، في أيام الله تتساوى الذوات، يكون كل فردٍ مساوياً للفرد الآخر، حيث تأتي الجباه من كل مكانٍ لهذه البقعة من الأرض، لتتضرع بين يدي بارئها، كلهم لم يكونوا بلا خطايا، ولكن ضوء الروحانية الساطع يمتصّ أدران الخطأ، ويغذي عروق الروح.. هذه هي أيام الله.