من أشهر العبارات التي يكاد الناس يجمعون على صوابها: «النَّاسُ بِزَمَانِهِم أَشْبَهُ مِنْهُمْ بِآبَائِهِم»، ويبدو لي أن شَبَهَ الناس بأزمانهم، لا يعني عقوقَ هؤلاء لآبائهم، وإنما الأمرُ راجعٌ إلى التوافقِ بين عادات الناس وطبائعهم، وبين ما يحمله كل عصر من تجدُّدٍ في أحكامه، وتسارعٍ في تقلبات أيامِه. ذلك أنّ تصرُّمَ الزمن سريعٌ ومُريعٌ، فلا أحد يلحق به أو يُجاريه، فلا عجب إذن أن تنقضي أغلبُ أوقاتنا لاهثةً مسرعة، سرعةَ تبدُّلات أمزجتنا وأحوالنا ورغباتنا.
ولعلّ في هذا الالتحام بين الإنسان وزمنه، ما جعل أحد الفلاسفة يرى في الزّمن مرضاً لا يُدَاوَى، ولا يُشفى منه الآدميّ، ُ إلا بالخروج من الدنيا.
ومن طبائع الدنيا نفسِها، العجلةُ عند حُدَثاء الأسنان، فتراهم يُسرعون في ترقّي درجات الحياة، وتُعجبهم سرعتُهم في ذلك، لأنها تُحاكي سرعةَ جريان الوقت بهم، فتهفو نفوسُهم إلى مطابقة ما يعجبهم من الزمنِ وأحواله. وفي تلك الأثناء، يكون عبابُ الكهولة يمخُر أعمارَ آبائهم، ويدفع بهم صوبَ تأنّي الأشْيَاخ، وتَتْرك مرارةُ التجارب في عقولهم حِلْماً ورَويَّة.
يظن الأحداثُ أن الأناةَ بُطءٌ في السير، وتقهقرٌ لا يليق بمَن تتوق نفسُه إلى السَّيْر أمَاماً. وعليه، فلا يمكن أن يختلفوا مع رأي أحدٍ، وأن يقبلوا التشبُّهَ به في الآن نفسه، سواء وصلوا إلى هذه القناعة بوَعْيِهم، أو قادتهم إليها عقولُهم الباطنةُ. ويبدو التباين في الرأي، حول شبه المرء بزمانه، كبيراً، ففريق يرى السرعة تهوُّراً، وفريق آخر يرى التأني جُبناً وتقهقراً، والمألوفُ في هذا الشأن هو أن الشبهَ يحصل بالتآلف، وليس بالضدية.
وربما أدّت مبالغة الإنسانِ في التشبُّه بأحوال زمنه، تلك التي لا تثبتُ على حال، إلى تبدّل عنده في الهيئةِ والرأي والأعمالِ، فإذا هو فاقدٌ لنِعْمةِ التجسُّدِ في كيانٍ ذي ملامح ترتسمُ في الذِّهن، وتهفو النفسُ إلى مشاكلتها.
ولعلّنا نجد صورةً لهذه المشاكلة، في قول محمد بن حازم الباهلي: وقائلٍ كيفَ تفرقتُمَا؟ فقُلتُ: قولاً فيهِ إِنصافُ لم يَكُ لي شكلاً ففارقته والناسُ أَشكَالٌ وأُلَّافُ لا بأس أن تفارق صاحبَك إذا لم تتشاكلا، لكن يصعب أن يفارقَ الأبُ ابنَه لعدم التشاكل، ولو فعل الناس ذلك، لَعَزَّ الابن الذي ما فارق والدًا!
تقريب المواقف، وإذابة الجليد، لا يتحققان إلا بنبذ العِناد، ولله دَرُّ حكمةِ أبي العلاء المعري، حين قال:
أرى العَنْقاءَ تَكْبُرُ أن تُصادا فعانِدْ مَنْ تُطيقُ لهُ عِنادا
وما نَهْنَهَتُ عن طَلَبٍ ولكِنْ هيَ الأيّامُ لا تُعْطي قِيادا
فلا تَلُمِ السّوابِقَ والمَطايا إذا غَرَضٌ من الأغراضِ حادا
وإنه لجدير بالآباء، الاعتيادُ على ممارسة تفهُّم سلوكِ أبنائهم، والتفهم لا يعني الموافقة! بل هو محاولة معرفةَ دوافع تلك السلوكيات وتقديرُها، وبلوغ التفهم، أول درجات التفاهم، وهو ما لا غنى لنا عنه.