الأخلاق ليست كلها موروثة، أو تأتي بسبب التربية، بل إن أبدعها تلك التي تأتي بالتمرين المستمر للذات على أن تكون مؤدبةً مهذّبة. من السهل أن يكون الإنسان متجهّماً عبوساً قمطريراً، لكن من الصعب أن تمنح الناس بياض روحك من خلال التبسم الذي تنثره عليهم, وفي الحديث: “إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، من يتحر الخير يُعْطَهُ، ومن يتوقَّ الشرَّ يوقهُ”. الأخلاق بعضها فطري وبعضها الآخر مكتسب.
حين يكون الإنسان منفعلاً يمكنه أن يدرّب نفسه على الهدوء. وحين يكون عبوساً يمكنه أن ينمّي ذاته من خلال الفرح الذي يمكن أن ينثر على الآخرين، أو الفرح الذي ينثرونه هم عليه.
وجزء من قيمة العقل أنه يمنع الإنسان عن الأخطاء والمزالق، كما يحمي العقال الناقة من التيه والضياع، وربما كان الأحنف مضرب المثل في الحلْم، قيل عاشت بنو تميم بحلم الأحنف أربعين سنة، وفيه قال الشاعر:
إذا الأبصار أبصرت ابن قيس ** ظللن مهابة منه خشوعا
قال سليمان التيمي قال الأحنف: ثلاث في ما أذكرهن إلا لمعتبر ما أتيت باب سلطان إلا أن أدعى، ولا دخلت بين اثنين حتى يدخلاني بينهما، وما أذكر أحدا بعد أن يقوم من عندي إلا بخير. وقال: ما نازعني أحد إلا أخذت أمري بأمور: إن كان فوقي عرفت له قدره، وإن كان دوني رفعت قدري عنه، وإن كان مثلي تفضلت عليه، وقال: لست بحليم ولكني أتحالم.
وقيل: إن رجلاً خاصم الأحنف وقال لئن قلت واحدة لتسمعن عشرا فقال لكنك إن قلت عشراً لم تسمع واحدة. وقيل إن رجلاً قال للأحنف بم سدت وأراد أن يعيبه، قال الأحنف: بتركي ما لا يعنيني كما عناك من أمري ما لا يعنيك.
وحين أراد الشاعر الكبير أبو تمام أن يمدح أحمد ابن الخليفة المعتصم قال فيه:
إقدامُ عمروٍ في سماحة حاتمٍ ** في حلم أحنف في ذكاءِ إياس!
قال أبو عبدالله غفر الله له: الحلم يأتي بالتحلم، وحين تشعرون بالاتجاه نحو منزلقات السوء تذكروا أن الحلم سيد الأخلاق، وربما أكثرها وعورةً وأصعبها على الإطلاق، ولا يمكن أن نرى الأخلاق تزدهر إلا في المجتمعات ذات التجلّد والصبر، فبالصبر والتمرين تنال معالي الأمور، فالحياة كلها تمرين من أجل الوصول ولو إلى جزءٍ من الطموح أو المثال.