لا يمكن تصوّر مجتمع حيّ تنموياً، من دون أن تكون القراءة جزءاً من حياته ويومياته. الأرقام تتحدث عن احتلال الأجهزة الكفيّة لأيدينا وإحراقها أعيننا، بينما ينعزل الكتاب في زوايا البيوت المغبرّة.
من قبل التقنية كانت العلاقة بين القارئ العربي والكتاب ليست جيدة. حين يطبع كتاب رصين لكاتبٍ عربي كبير فإن أقصى طبعة لا تتجاوز خمسة آلاف نسخة، وهو عدد قليل إذا وزّع على ثلاثمئة مليون عربي. همّ الكتاب والقراءة لطالما أرّق صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، فهو الشاعر والمؤلف..
والذي أخذ على عاتقه إطلاق أعمالٍ جبارة ومبادرات كبرى، كان من بينها «تحدّي القراءة»، وهو مشروع ضخم لتشجيع القراءة لدى الطلاب في العالم العربي، عبر التزام أكثر من مليون طالب، بالمشاركة بقراءة خمسين مليون كتاب، خلال كل عام دراسي.
للمرة الأولى عربياً، تطلق الإمارات «الصندوق الوطني» للقراءة بقيمة 100 مليون درهم، وأصدرت أيضاً «قانوناً للقراءة»، يحدد الأدوار والمسؤوليات الوطنية وكل الجهات الحكومية المعنية بالقراءة، وتستهدف جعل التعليم مدى الحياة لكل مواطنيها. صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، قال إن: «قانون القراءة هدفه جعل التعلم مدى الحياة لجميع أفراد المجتمع، وتعزيز الأصول الذهنية والفكرية والثقافية لمواطنينا»، بينما يعلّق صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، بأنه: «لا يوجد اقتصاد معرفة من دون مجتمعات المعرفة..
ولا يمكن بناء استراتيجيات من دون بناء أجيال.. لا يمكن تكوين مجتمع متسامح وأسر متماسكة.. ووعي مجتمعي حضاري.. وهوية وطنية راسخة.. من دون ثقافة وقراءة واطلاع ومعرفة، فالمجتمع القارئ هو مجتمع متحضر.. مواكب للمتغيرات.. رائد في التنمية، ومتقبل لكل الثقافات».
الخلاصة مما سبق، أن الإمارات عازمة بالفعل على ترسيخ موضوع القراءة عبر المسارين الاجتماعي والتربوي، والمسار الآخر النظامي والعملي. لو تصفّحنا وسبرنا السير اللامعة التي أثرت نهضوياً وعلمياً في تاريخ بلدانها وحضاراتها، سنجد أن العلم والنباهة المصقولة بالقراءة والمتابعة للجديد، في الأفكار والعلوم والنظم، كانت أكبر عوامل نجاحهم وبروزهم.
ثم إن القراءة عمليّة فيها متعة ذهنية، وتصوّف ذاتي، وللكتاب من المحاسن ما يعزّ على الحصر، ويتجاوز قدرة اللغة، وفي هذا الشغف يمكن قراءة أعمال إلبرتو مانغويل الممتعة: «تاريخ القراءة» أو «يوميات القراءة» و«مكتبة في الليل».
قالها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، من دون قراءة لا يمكن تأسيس اقتصاديات المعرفة، ومن دونها تستحيل النهضة، وتتعذر إمكانات التقدم بمستوى جودة المجتمع ليكون قادراً على ملاحقة ركب العالم والسير ضمنه ومعه، ولا غنى عنها للصيدلي والطبيب والموظف العادي والإنسان البسيط، وبينما نرى صوراً من الصين واليابان وكوريا الجنوبية وصولاً إلى أوروبا لمجتمعاتٍ قنّنت استخدام الأجهزة الإلكترونية وخصصت وقتاً للكتاب الثمين في المسابح والحدائق والمقاهي والقطارات لانزال نحتاج إلى هذه القوّة الذاتية والمعرفية لتحقيق التقدم بما يتعلق بالقراءة.
الكبار لا يقرؤون لأنهم يعانون من الفراغ، بل يفرّغون أنفسهم من أجل القراءة، وهذا هو الأمل بأجيالٍ صاعدة، لم يعد الكتاب محطّ التسلية الأول بسبب اجتياح التكنولوجيا، ولعمري أن من يحافظ على وقتٍ لكتابه الورقي لهو الناجي بنفسه من إدمان التقنية القاتل.
إن رمت لعقلك نماءاً فعليك أن تقرأ، أما إن اخترت الخمول وعدم التطور فإياكم والقراءة!!