ثراء الحياة يصنعه التنقل، والترحال، وخوض التجارب بجسارة، والجرأة والإقدام على التغير، فمن لا يتغير يشبه الماء الراكد.
والجمود لا سيرة له؛ ولا تكون الأمم والأفراد، تحت منظار البحث، وبؤرة الاهتمام والدراسة، إلا إذا كان حجم التغيير فيها كبيراً.
ولعل سيرة الكاتب السعودي الأستاذ عبدالله بن بجاد العتيبي، فيها من الإثارة والثراء والتنوع والتغيير، ما يؤهلها لتتحول إلى فيلم سينمائي مشوق. هذه التجربة الغنية، تعبر في الوقت ذاته عن حكاية جيلٍ سعودي، خاض غمار حراك فكري، وتجارب حركية، ووجد نفسه في خضم معارك سياسية، ومن سار في طريق اكتشف بعد أن قطع فيه شوطاً، أنه لم يختر هذا الطريق، تصبح عودته عن مساره صعبة، وتُحمد شجاعة من قرر رسم تحولات معرفية وفكرية، يعود فيها عن ما لم يختره!
ولد عبدالله، في قرية صغيرة تدعى (مصدة)، تابعة لمحافظة الدوادمي، غرب الرياض، عام 1971، وعاش سنواته الأولى انعكاساً لبراءة القرية، وبساطة أهلها، حيث القيم لم تتلوث بازدحام المدن.
ومن القرية، ووالديه رضع الفتى شيم الكبار، وسمو الأخلاق، وعزّة النفس. تلك الصفات التي لازمت صاحبنا، ولزمها، حتى في فترات تطرفه التي ستمر بنا، بشهادة مجايليه، الموافقون، والمعترضون.
في أوائل الثمانينات، انتقل مع أسرته إلى الرياض. ولأنه كائن اجتماعي بالسليقة، فقد أصابته موجة الصحوة، مثل جيل بني جيله، فانخرط مع مجموعات دينية، منذ المرحلة المتوسطة، وتأثر بالصراعات المحتدمة بين التيارات الأصولية، واختط لنفسه طريق السلفية، التي أخذها التشدد نحو التكفير، فأضحت شبيهة أو قريبة من السلفية الجهادية. قبيل حرب الخليج بسنوات قليلة، كان ابن بجاد منضوياً بشكلٍ كامل مع الراديكالية الأصولية بأقوى تفسيراتها، لم يقم بأي أعمال عنف ولم يشارك بها، وربما أظلته سحابة اللطف ودماثة الخلق، فمنعته أن يسلك طريق بعض الرفاق، الذين مارسوا العنف، بناء على تكفير الدولة. صيف أغسطس عام 1990 وحرب الخليج، كانت مؤثرة عليه بشكل كبير.
تمتع ابن بجاد بعلاقات قوية مع رموز التيارات في الداخل وفي الخارج، والتقى في جلسات نقاش تارة، ومناظرة علمية تارة أخرى، أقطاباً تكفيريين، ورموزاً أصوليين وصحويين.
بعد التصعيد المحموم من تيارت الإسلام السياسي خلال حرب الخليج، تشكلت حالة توتر بين الحركيين والدولة، فُربط اسم ابن بجاد بخلايا مناوئة للدولة، ما أدى إلى سجنه من 1990 حتى 1992، فأوقد السجن شرارة المراجعة، ونقد الذات عنده.
بعد حادث إرهابي بالرياض العام 1995، بلغه أن الأمن يوقف كل من له سابقة تكفير أو تفجير، بحثاً عن الفاعلين، فخشي السجن، وهرب من السعودية إلى اليمن مروراً بسوريا حتى استقر في الأردن. قضى عامين فيها على الهامش، يسكن في شقة صغيرة يقضي فيها مع رفيقه وصديق عمره مشاري الذايدي معظم الوقت في قراءة كتب فكرية، كانا قبل سنوات يصفان مؤلفيها بالضلّال، وربما بالكفر. لا خروج من السكن، إلا للتبضع السريع، أو شراء الكتب والجرائد.
قرأ ابن بجاد بكثافة، كتب نقد الخطابات السائدة، والرأي الأُحادي، فبلغ التحول ذروته بعد السجن الثاني، الذي قرأ فيه كتبا تناولت النظريات النقدية والفلسفية، والمعنية بنقد الخطاب الديني التقليدي. قرأ كتب محمد عابد الجابري، ومحمد أركون، ونصر حامد أبو زيد، وجورج طرابيشي، وشكّل من هذه القراءات، بالإضافة إلى ما لديه من علم شرعي، منطلقاً فكرياً لرؤى تدور بين العقل والنقل، لكنها تنقض أفكار التشدد، وتفتت آليات التكفير حججه وبراهينه. ناقش ابن بجاد كبار منظري القاعدة، مثل ناصر الفهد، وعلي الخضير وغيرهما، وتصدى فكريا لرياح القاعدة العاتية، التي ضربت السعودية، بلا رفق، منذ تفجيرات الرياض في 2003.
معركة ابن بجاد ضد الإرهاب وضعته في مواجهات ومناظرات مع بعض تلاميذه، الذين تسنموا مع الوقت ذروة القيادة في التنظيمات المتطرفة، وبينها القاعدة، ومن هؤلاء زعيم القاعدة بالسعودية عبد العزيز المقرن.
يتمتع ابن بجاد بعقل حي، وذكاء متقد، وحجة دامغة، يردفها شخصية مستقلة، بلا غرور ولا تكبر، وما إن بدأ يطرح رؤاه المعتدلة، المؤسسة على منطلقات أصول الفقه ومقاصد الشريعة، حتى ثارت عليه دوائر أرادت إسكاته، لكنها لم تجرؤ على مناقشته، وتفنيد حججه ورؤاه، فوقع بين المطرقة والسندان، مطرقة الإرهابيين الذي أصبحوا يحملون عليه لأنه أبان وهن حجتهم، وفريق من المتدينين الذين اعتبروه آنذاك، من العصرانيين، وبالطبع فقد شوهوا التصنيف، بأحكام مسبقة جائرة.
كان والد عبدالله، رحمه الله، بدوياً تقوده فطرته السليمة وسليقته، وكثيرا ما عاتب ابنه على التشدد، لكنه كان من الوعي بحيث لم يفرض على الابن توجهاً. جمع طريق سفر عبدالله مع أبيه في سيارة يوماً فأدار الوالد جهاز التسجيل وكانت أغنية الفنان عبد الرب إدريس: «يوم الأحد في طريقي»، تجرأ الابن مع شديد أدبه وبره بأبيه، وكتم الصوت. أعاد الأب تشغيل الأغنية، فأقفل الابن المسجل ثانية، وفي المرة الثالثة، أوقف الأب السيارة، وأمر ابنه بأن يخرج منها عقاباً له. نزل عبدالله وسار في الليل البهيم، حتى رأف بحاله سائق شاحنة، وأقله إلى مدخل الرياض. يكرر ابن بجاد القصة، مستغرباً جرأته على أبيه، منهياً القصة بالدعاء للأب الراحل بالرحمات.
عبدالله بن بجاد، باحث جاد، بات من نوادر المختصين بجماعات الإسلام السياسي، وله في تاريخ الإخوان المسلمين، ونقض أفكارهم مباحث مميزة، هذا بالإضافة إلى لغة فاتنة، قوامها إجادته السباحة في بحور الشعر الفصيح والنبطي، يسندها ذائقة أدبية راقية، توازي أدب الرجل في سلوكه، ورقيه في تعامله مع القريب والغريب.
بتواضع الكبار، مقتطفاً ثمرة العلم، لا يدعي ابن بجاد تفرده في تخصص، أو تميزه في مبحث، كما لا ينتقص من غيره ولو كان خصماً، مع أنه مثقف حقيقي، وكاتب من طراز رفيع، وإنسان فائض الأنسنة، أصيل المعدن، ثمين القيمة.