على أطلال منطقة بيشة الجميلة، جنوبي السعودية، ولد شاعر الحكمة الراحل، سعد بن جدلان الأكلبي، فغرف من الشعر أروعه، وأطلق من الحكم أبرعها وأمضاها، جاب الشعر النبطي وبرع فيه، وتسيّد المشهد الشعري في الخليج حتى رحيله، كما عرف بشعر القلطة، وبالردود القوية، وامتاز شعره بحدّة الوصف ودقة التصوير.
ينبت شعره كما تنبت أشجار الجزيرة بطلحها وزرعها، ويفيء الحرف على المعنى، ويدبّج القصيدة كما يعزف الموسيقار مقطوعته. لطالما تداول أهل الشعر قصائده قبل زمن الانترنت، فقد كان مجيداً وحكيماً، بشعره سلوى للموجوع، وأمل لليائس، وفي حكمته أمان للخائف. استطاع أن يشرح الخلق والإيمان والشهامة والكرم وكل سمات الفروسية بحروفٍ رشيقة وبنيان لغوي ماتع.
لقد فقد الشعر حكمته برحيل رأس هرمه، ابن جدلان، رحمه الل! حافظ على بكارة اللغة الدارجة التي لم تدخلها ألفاظ محدثة، فهو بلهجته وصف طبيعته والظروف المحيطة به، ولم يثنه ما يقال عن عدم إجادته للقراءة والكتابة، من البراعة في رسم الصورة وإطلاق القصيدة وإتقان رسم الحرف. في وصفه لوعة، وحب مشبوب، وجراح غائرة، ونبض حياة دائم، من روائع حكمته:
أنا وين أبلقى يالاجاويد فاعـل خيـر
حريصٍ على سرّ المحبيـن لارسلتـه
أناّ لوّ أبصبر عام مابـان بـي تأثيـر
وهالحين حتّى الصبر يومين ما أحتلتـه
أنا مثل صقـارٍ تولّـع بحـبّ الطيـر
ولف قلبه فـروخ الصورايـم وهبلتـه
تولعّت في فرخٍ قضيـبٍ يتـلّ السيـر
أبيّ نظرتٍ من لفتـة الحـرّ وسبلتـه
الفروسية التي تعلّم عليها، وهاجس التغيّر في القيم لدى المجتمعات، وتحوّلات الظروف التي أنست البعض الأسس والتقاليد الجميلة في البر والعرفان كانت هاجسه ومؤرقه، ومن فصيح بوحه وحكمته:
ودّنا بالطيب بس الدهر جحّاد طيب
كل ما تخلص مع الناس كنك تغشهـا
يدك لامدت وفا لا تحرى وش تجيب
كان جاتك سالمه حب يدك وخشهـا
كل ما شـبـيت نار المحّبه مع حبيب
قام يسحب فـي مشاهيبهـا ويرشهـا
بينما يمضي في حكمته في عز ضوء النهار مشعلاً المصباح على طريقة اليوناني المشاكس «ديوجين»، يبحث عن أسباب وعلل في هذه الحياة، وعن سلوكيات المجتمع وأنماط تصرفه وأساليب تعامله، فهو يرقى بحكمته إلى حد قوله:
لاتخالفت المماشـي تخالفـت الـدروب
مـع مـن يعنيـك ويقـدرك وتـقـدّره
والبشر محدٍ على شف غيره بمغَصوب
مـن بغالـه شعـب فيسنـده ويحّـدره
الشعر الأخاذ، والحكمة البالغة، والنذر المتقنة التي يعظ بها قراءه تجعله بمصاف الشعراء ليس في السعودية فقط، وإنما على هرم الشعر النبطي في الخليج، لقد عاش ورحل متمسكاً بحكمته وحكمه، أخذ من كدر الحياة وصفوها، وأدّبه الدهر، وأخذ الحكمة من تصاريف الحياة وانعطافتها، وعرف الناس من اعوجاجهم فسبرهم ودرسهم، لهذا كان شعره متخماً بالحكمة، فهو القائل وقد صدق:
ما أطرد المقفي ليا صفّـط اشراعـه
مخبَـل اللـي للمقفـيـن تبَـاعـي
من يحط إذنـه علـى كـل سمّاعـه
جـاه فرقـاً ما بعـدهـا تجمَـاعـي
* كاتب وإعلامي سعودي