إضاءات – تركي الدخيل
لا يحتاج الموظفين في الديوان الملكي السعودي، إلى ساعات حائط سويسرية دقيقة، فيمكنهم أن يضبطوا أوقاتهم من خلال سلمان بن عبدالعزيز.
هكذا كان الأمر في وزارة الدفاع السعودية، والأمر ذاته، كان هو المعمول به في إمارة الرياض، على مدى نصف قرن، كان فيها سلمان بن عبدالعزيز، حاكماً وأميراً للرياض.
يدخل مكتبه، في موعد محدد، لا يتغير. يخرج من مكتبه في ساعة محددة. يجلس على مائدة الغداء في ساعة محددة. ويقول لضيوفه على العشاء كل يوم: تفضلوا حياكم الله، إيذاناً ببدء تناول الوجبة في وقت لا يتغير.
العاملون مع سلمان بن عبدالعزيز، ينعمون بانضباط رئيسهم، ولا يعانون من ذلك، إلا أول شهر من الالتحاق بالعمل مع الزعيم، الضابط، المنضبط… ضابط لإيقاع اليوم… منضبط بروتين دونه لا يمكن أن تصنع إنتاجاً.
الغداء، وقت التفاف العائلة، الأبناء، والأحفاد.
العشاء، وقت الضيوف أو الأصدقاء.
لا أحتاج أن أقسم، وإن كنت مستعداً، على أن ما سبق لا مبالغة فيه، وأقوله من تجربة عملية، فقد أتاح لي سمو ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان، حفظه الله، فرصة العمل تحت إدارة خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبدالعزيز، أيده الله، عندما كان ولياً للعهد.
قبل النوم، ثمة ساعة للقراءة الحرة، يتناول فيها كتاباً من مكتبته الضخمة الثرية، ويقرأهُ بتمعن. كنت أسمع عن قراءة سلمان بن عبدالعزيز، الكتب بتمعن، لكني أيقنت بذلك، في عامي ٢٠٠٦، و٢٠٠٧. أصدرت كتابين، أهديته أحدهما، في مناسبة رعاية أمير الرياض محفلاً ثقافياً، فتناول الكتاب، وتفحص الغلاف، فالغلاف الخلفي، وفتح الصفحات الأولى. كنتُ مسروراً أن أتيحت لي آنذاك فرصة تقديم الكتاب للأمير، لكني بعد أن بدأ يقرأ سطوراً من المحتويات أو المقدمة، لا أدري، ماذا كان يقرأ، بدأت نوبة من المشاعر المتناقضة تجتاحني، فأي سعادة ستحل عليك عندما لا يكتفي رجل الرياض الأول، صديق الصحافيين، بتحويل الكتاب المُهدى لمرافقه، بل يمارس معه عادات قارئ محترف، يطالع الغلافين، ثم يتصفح سطور البدايات، أو يمر على سرد المحتويات. في الوقت ذاته، كنت أُحس بمشاعر القائمين على المناسبة، الذين سيعتبرونني أفسدت سلاسة ترتيبهم لحضور راعي الحفل، ومروره على المعارض المصاحبة للمناسبة.
بعد يومين أو ثلاثة، لم استيقظ من نومي في السابعة صباحاً، فلم يكن هذا وقت يقظتي اليومية، حينها، لكني أُوقِظتُ بفعل عشرات الاتصالات، القادمة من سنترال قصر أمير الرياض، ثم من إمارة الرياض. ظننت أن كارثة وقعت، وأني سبب وقوعها، وكان صوت مأمور السنترال، العاتب على عدم وجودي، يشي بأني سبب الكارثة. قال المأمور بأن الأمير يبحث عنك منذ الصباح الباكر، انتظر لأحولك للأمير. ثوانٍ ليكون صوت سلمان بن عبدالعزيز، أفضل من أقوى جرعة من الكافيين، توقظ كل جزء في عقلك وبدنك، وكأنك استفقت قبل عشر ساعات. قال لي: إنه قرأ الكتاب، ثم انتقل ليورد لي أرقام بضعة صفحات، ويقرأ جملاً من الكتاب، ثم يضيف إضافة، أو يعلق، أو يسأل عن مقصود!
شكراً لكافيين صوتك سيدي، وإلا كيف لي أن أجيب أسئلتك، وأنا أرد قبل أن أنهض من فراشي، لو لم توقظني هيبة سلمان بن عبدالعزيز؟
في الكتاب الثاني، تكررت نفس القصة، مع موضوع الكتاب المختلف.
في الرحلات الرسمية لسيد الهيبة، سلمان بن عبدالعزيز، كان يعلق على حفاوة الاستقبال، بوعي سياسي وتواضع إنساني، فيقول: هذه الحفاوة المشكورة، حفاوة ببلادنا، لقيمتها، ولاتزان سياستها.
لسلمان بن عبدالعزيز، هيبة صنعتها سيرته ومسيرته، وجده وجديته في حياة إدارية طويلة، لكنه حفظه الله، لا يلبثُ أن يمازح ضيفه أو زائره، أو يلاطفه، بقصة أو دعابة أو تعليق، فيه من الظرف، ما يزيل رهبة الموقف، وهي كيمياء سلمان، الجاد، الإنسان، الحازم، اللطيف.