عاد بعض المبتعثين إلى بلادهم، بعد أن درسوا ما شاء الله أن يدرسوا، ما بين بكالريوس وماجستير ودكتوراه. ومع أن الأغلبية الساحقة من المبتعثين يذهبون إلى الدراسة من أجل العثور على وظيفة مميزة حين العودة، فإنني أتمنى أن تتطور فكرة الابتعاث لتتحول من هاجس وظيفي إلى هاجس ثقافي. أن يسير المبتعث في أيام الآحاد في شوارع المدن متأملاً وقارئاً وسائلاً. أن يسأل عن الأمة التي يعيش في كنف تراثها وترابها. سواء كان المبتعث في أستراليا أو في أمريكا أو بريطانيا أو هولندا أو أيّ بقعة من بقاع العالم.
وحينما تجتمع الدراسة المعمّقة، مع البحث في المكان الذي يعيش فيه المبتعث يجمع نوراً على النور. قرأتُ قبل أيام أن مبتعثاً سعودياً حقق رقماً قياسياً. حيث اعتبرت جامعة استراثكلايد الطالب محمد حامد البحيري المبتعث من جامعة الملك خالد من المتفوقين دراسيا، وحصل على درجة الدكتوراه دون الحاجة إلى تعديلات في دراسة تناولت التنمية المهنية للمعلمين عن طريق الإنترنت في المملكة. وأشارت الجامعة في خطاب بعثت به إلى الملحقية الثقافية السعودية في المملكة المتحدة وأيرلندا إلى أن البحث أنجز بإتقان، مضيفة أنه أول طالب أجنبي يجتاز هذه المرحلة دون أي تعديلات أو مراجعات على بحثه وفي مدة تعد أقصر من مدة دراسة الدكتوراه الفعلية “ثلاثة أعوام” هو ما جعله يتفوق حتى على أقرانه البريطانيين.
قلتُ: وهذا الإنجاز الجذاب يزيدنا إيماناً بضرورة الابتعاث للانفتاح على الآخر المختلف. مع أن نسبة ليست قليلة يذهبون ويعودون بنفس قناعاتهم، بل ربما يزدادون تطرفاً، مكررين مأساوية سيد قطب حينما لم يندمج مع الثقافة الغربية وشعر بالإعياء الشديد والتناقض بين صلابة ذهنه العصي على الانفتاح، وبين ثقافة الغرب المستوعبة لكل الثقافات والأعراق.
اللافت أن مسؤولة الدراسات العليا بالكلية الدكتورة جون متشل علّقت على بحث البحيري مشيرةً إلى: “أن البحث يشكل إضافة مهمة في مسيرة تطوير التعليم في المملكة وسيكون له أصداء واسعة في المجلات العلمية”.
آن الأوان أن نكرر مثل هذه النماذج الممتعة، والتي تزيدنا إصراراً على تسيير أفواج من السعوديين للدراسة والعبّ من المعارف والعلوم، والاندماج في الثقافات المختلفة وقراءة الآخر، أياً كان لونه، ودينه، وجنسه، وعرقه.
جميع الحقوق محفوظة 2019