إذا كان الإبداع يحتاج إلى: “عبقرية الاهتمام” و”الانفكاك من البرمجة” و”الفرح”، فإنه يحتاج أيضـا إلى ما يسميـه برغسون “الانفعال الجديد L emotion neuve”. ويقصد بالانفعال تلك الرغبة والتوتر والقلق لصناعة فرق في المجال الذي يعمل فيه. من السهل أن تكون فناناً ضمن عشرات الفنانين، ولكن ما يصنع ميزة للفرد حينما يكون فناناً امتازعن غيره بإبداع وخلق جعله مختلفاً عن البقية، صناعة الفرق دافعها الأول هو الانفعال. والانفعال حالة من التحفز المستمر لالتقاط الأفكار الجديدة والأشكال الحديثة والنقاط الفريدة في التخصص الذي يعمل فيه الفرد.
يقول برغسون: “إن الانفعال الجديد هو المنبع الذي تصدر عنه الإبداعات العظيمة، في ميادين الفن والعلم والحضارة، إنه الانفعال الذي يهيب بالعقل أن يعمل، ويهيب بالإرادة أن تدأب، ولكن دوره أبعد من ذلك بكثير لأنه انفعالٌ خلاق للفكر، فالابتكار، أي ابتكار، وإن كان عقلياً فإن الانفعال جوهره الثاوي في الأعماق”.
قلتُ: يحتاج المبدع إلى أن يكتشف في داخله ذلك الانفعال المتجدد دائماً، انفعال كغليان إناءٍ دائم، من دون أي توقف. لهذا فإن الفيزيائي الممتاز ليس الذي يكون مجرد أستاذ في الفيزياء ضمن آلاف أساتذة الفيزياء في العالم، بل هو الشخص الذي يتفرد من خلال الانفعال الذي يعيشه بخلق وابتكار داخل تخصصه الذي يعمل فيه. هناك فرق بين فيزيائي من عشرات الفيزيائيين في عالمنا العربي، وبين ستيفن هوكنج، أو ستيفن واينبرج. وهذا ما أردت إيضاحه من خلال معنى الانفعال.
برغسون له كلمة رائعة أخرى، يقول فيها: “والحق إن الخلق والإبداع ليس في أصله سوى مجرد انفعال، والانفعال هنا مزيج من الحساسية واليقظة الفكرية والإلهام الروحي والحدس الصوفي”. وهنا يقصد بالحدس الصوفي المعنى الروحي الإنساني، وليس المعنى المذهبي الإسلامي، إذ التصوّف له معنىً أعمق ويراد به ذلك الصعود الروحي المستمرّ، وتلك الروحانية في العلاقة بالأشياء والمشاعر.
قال أبو عبدالله غفر الله له: كل مهنة تقوم على أسس وقواعد وأساسيات منها ما هو نظري، ومنها ما هو تطبيقي، لكن المسحة الأساسية للإبداع والخلق والابتكار هي تلك الحالة العميقة التي تسمّى بالانفعال الروحي والحدسي والذهني. إذا توافر الانفعال داخل الفرد فقد حصل على إكسير الإبداع، وكمن فيه سرّ التجدد والابتكار.