كثر الحديث عن علاقة التعليم بالبطالة، على المستوى الخليجي بالذات. بين فريق يرفض أن تتحول الكليات إلى مؤسسات مرتبطة في تعليمها بسوق العمل، ذلك أنها -حسب تفسيرهم- تتحول حينها إلى مجرد كليات تقوم بتدريب الأيدي العاملة، من دون أن ترتقي بوعيه وعلمه. تلك الرؤية اتخذتها النخب المثقفة التي تريد أن تغير من وعي المجتمع، بغض النظر عن علاقة التخصص بسوق العمل. بينما رأى البعض الآخر ضرورة ربط التعليم بسوق العمل، جرياً على تجارب كثيرة، ومن أراد الاستزادة من المعارف فهي متاحة، وبإمكان الكلية وضع مواد اختيارية لمن يريد أن يطلع على جوانب علمية ليست من صلب اختصاصه. لكن ذلك الجدل لم ينه كارثة يؤمن بها الفريقان، وخلاصتها: أن التعليم متخلف، وسوق العمل لديها مشكلات كبيرة مع العامل الخليجي بالذات. في الخليج، لم تحدث أشكال استعمار حقيقي، يغير من جذور البنية الاجتماعية، ولا من صميم العروق السوسيولوجية الكامنة في عمق المجتمعات الخليجية، لهذا فإنني أظن أن بكارة تلك المجتمع وجدتها على العراك العالمي، ستكون إما مثمراً أو مخزياً، ما لم تكن مستويات الانتقال من البدء إلى المنافسة تمر بوتيرة سريعة، تؤمن دقة الخطو، وتؤمن سرعة العدو. لكن الإيجابية التي أحدثتها بعض مستويات الاستعمار في الدول العربية التي تحظى بتعليم جيد على مستوى اللغات الأجنبية وتعلمها، أو على مستوى الرقي بالوعي العلمي والمعرفي-كلها- جاءت بسبب الجانب الثقافي المثمر الذي تسبب به الاستعمار-ربما- من دون أن يشعر، هذا ما جعل من دولة مجتمع كالمجتمع اللبناني ينتقل من الوصاية العثمانية والقمع اللغوي المقتصر على اللغة العربية، إلى انفتاح لغوي، فأصبحنا نعثر على نماذج لبنانية كثيرة تتحدث بضع لغات بإتقان كبير، وقل مثل هذا عن دول المغرب العربي. كانت تلك نقلة مهمة على المستوى المعرفي، لكن لم تصحبه طفرة اقتصادية تؤمن لتلك الكوادر المؤهلة علمياً وظائف عملية، مما جعل البطالة تنتشر بشكل فاحش، كما جعل الهجرة تنتشر أيضاً في بلد مثل لبنان، حيث يقدر عدد المهاجرين منهم بنحو أربعة عشر مليون لبناني في أنحاء العالم مقابل ثلاثة ملايين لبناني في الوطن. كما أن نهج الحكومات الخليجية، يصنف من الناحية النظامية على أنه نهج يقوم على الرعاية، من ناحية عدم وجود ضرائب على المواطنين، ومن ناحية اعتماد الخليجيين في الغالب على الوظائف الحكومية التي تفتقر إلى التحدي والمنافسة والمخاطرة، لهذا تكون اهتمامات العامل الخليجي محصورة في تأمين مبلغ يأخذه في نهاية الشهر لتأمين مشترياته، التي تكون إما ضرورية، أو كمالية. ولم يجد بعد المواطن الخليجي أكثر أماناً من الوظيفة الحكومية. في السعودية مثلاً لا يستطيع أحد فصل الموظف الحكومي إلا بموافقة من المقام السامي مهما كانت مرتبته متدنية. لهذا يشعر المجتمع السعودي على سبيل المثال أن كل موظف غير حكومي هو “عاطل” بطريقة أو بأخرى. لهذا نشأت ثقافة العمل في الخليج بشكل معكوس! بينما تعتبر الوظائف الرعوية، المعتمدة على النصاب الوظيفي الحكومي من ناحية علمية “بطالة مقنعة”، فهم يمارسون أعمالاً غير منتجة، تلك هي البطالة المقنعة التي تحاول حكومات الخليج تحرير شعوبها من وطأتها. مشكلة الوظيفة الحكومية أنها تتجاوز حرفية القطاع الخاص. فهي تقبل كل من جاء بواسطته، مهما كان مستوى تعليمه متدنياً، والكثير من المتعلمين، يوظفون في أعمال ليست من اختصاصهم في الوظائف الحكومية. إن المعادلة بين البطالة والتعليم ليست هي المفصل الرئيسي في مسألة البطالة، وإنما أرى أن ثقافة العمل ككل في المجتمعات الخليجية هي سبب البطالة ذاته. إلى اليوم تفرز الطبقات الاجتماعية بناء على نوع الأعمال التي تقوم بها. لهذا فإن معالجاتنا دائماً تبدو سهلة لأول وهلة، لكن مع التأمل نكتشف أنها أصعب مما هي عليه، ونموذج البطالة خير مثال لو تأملنا.
جميع الحقوق محفوظة 2019