لو قلت لأحدٍ أن مؤلف كتاب: “نازح من جازان”، لا يتجاوز عمره ثلاثة وعشرين عاماً فربما كذبني، هذا الكتاب الجميل حمل في جوفه أصنافاً من التقارير والأخبار والتحليلات حول مفاجآت التمرد الحوثي على الحدود السعودية. اسم المؤلف: “هادي فقيهي” شاب طموح ونشط ولديه أسلوب كتابي راقٍ. كانوا يقولون: “الصحافي مؤرّخ اللحظة”، وهادي فقيهي مؤرخ حرب الحوثيين، لكنه تاريخ على الطريقة الصحافية، أن دون اليوميات التي يشاهدها، وهو فنّ ممتع أجاده هادي ببراعة. في الكتاب يتجه فقيهي إلى فتح الصناديق المغلقة في محافظة الحرث وجبل دخان والشريط الحدودي، وهي صناديق اجتماعية مشوبة بالسياسة، كما أجرى حواراً مع عبد الملك الحوثي، تحدث أيضاً عن إعلام الحرب وعن النازحين على الحدود. المؤلف دخل مهنة الصحافة من بوابتها النارية، بوابة الحروب، يقول في كتابه: “إن كان هناك من يمكنه أن يعْلم بالمصيبة قبل أهلها، فهم الصحفيون! حيث يأتيك الخبر دون أن تبحث عنه، بمجرد أن يعرف الناس أنك تمتهن المتاعب”! خاض الشاب السعودي اليافع متاعب جمّة من أجل أن يظفر بتجربة التدوين هذه. يضيف: “كنتُ أعيش أحداث تلك الحرب بوظيفتين، صحافي يبحث في عشرات الشائعات والأخبار التي تتناقلها مختلف المصادر عن مادة يومية يقدمها إلى صحيفته، ومواطن تقع قريته في محيط الحرب وتنتظر نصيبها من أوامر الإخلاء والنزوح”. عندما يتنازعك إحساسان أحدهما أنك جزءٍ من المشكلة، والآخر أنك متعاطٍ خارجي معها فهو صراعٌ حقيقي؛ أيّ الاثنين أنتَ أكثر؟! بعض الصحافيين يرصدون ما لا ينتبه له غيرهم، يلتقطون زوايا من الحدث تكون عادةً غير محسوسة أو ملاحظة وقراءة صفحات كتاب “نازح من جازان” يجعلك تعيش “القصة الصحافية” بأسلوبها الشيق، لكأن المؤلف في رحلة داخل النيران المشتعلة في البقعة التي يقوم بتغطية أحداثها ومتابعة شؤونها، وهو في خضم حديثه عن الحوثيين يدخل في جوانب أخرى، مثل حديثه عن “مافيا الدقيق” على سبيل المثال. ولا يتوانى عن ربط الظواهر المتعددة بالحدث الحوثي الكبير، كما في ربطه بين مافيا الدقيق وكهوف الحوثيين! في الفصل الخاص بـ”الحرب السادسة” يسرد لنا فقيهي كيف بدأت الحرب: “كسلسلة مفرقعاتٍ نارية، انفجرت وتناثرت دون أن ينتبه لها أحد، اندلعت الحرب على أطراف الشريط الحدودي وقلبت معها الموازين، بدأت الاشتباكات في منطقة الحصامة والمشنق والمثلث ودارت رحى المعارك بين ألوية الجيش اليمني في شدا ورازح ثم امتدت الحرب لتصل إلى الملاحيط وهي السوق التجاري الأهم على امتداد الشريط الحدودي وربما في صعدة بأكملها”. ثم يقول في مكانٍ آخر: “إنها الحرب من دون نذر”! يتناول في كتابه أيضاً جانب “الخرافة” الحاضر في رحى الحرب، حيث: “لم يكن الجندي الحوثي يتسلّح في المخيلة الشعبية بالرشاش والآر بي جي بل كان يسلب كتائب الجيش اليمني إرادتها باستخدام أعمال السحر، وعن قدرة الشعوذة الحوثية على تضليل المقاتلات اليمنية وتحويل قنابلها من الأهداف الحوثية إلى ضرب الجيش اليمني نفسه”! حتى الحرب استخدمت فيها الخرافات التي يصدقها الناس على أنها حقائق، وإلا فلو كان السحر يهزم الدول لحكم السحرة بلدان العالم، لكنه العمى الخرافي الذي سحر أعين البسطاء واسترهبهم الكلام السائر بكل خرافاته كالنار في الهشيم فيما بينهم. هادي هو انعكاس لجيلٍ جديد من الصحافيين السعوديين الذين عرفوا الصحافة الميدانية، والحربية منها تحديداً، بعيداً عن مكيفات المكاتب الوثيرة، وتنظيرات السفسطائيين الذين لا تجربة لهم في عالم الصحافة. ليت أن كل إنسانٍ مر بتجربة يدونها ويكتبها، وبضع صفحاتٍ تصقل قلمه وتجربته ورحلته الصحافية والأدبية. كتابة التجارب ربما نراها صغيرة لأول وهلة، لكنها سرعان ما تكون كبيرة ضخمة حين تكتب؛ حين تدوّن وتتلقفها الأيدي والعيون والعقول، تحية لتجربة فقيهي الحيّة، وتحية لكل جنوبٍ في كل أرض! تركي الدخيل www.turkid.net
جميع الحقوق محفوظة 2019