أيهما أولى لنا في الخليج وفي العالم النامي عموماً؟ التنمية أم الديمقراطية؟ أثبتت الدول التي اتخذت خطاً تنموياً ولم تدخل في سياق الثرثرة الأيديولوجية أو الانقلابات العسكرية أنها الأكثر تطوراً والأقدر على مقاربة النهضة. ذلك أن الديمقراطية ليست صناديق اقتراع، وإنما تحتاج إلى ظروف ومناخات وتراكمات تاريخية وثقافية وفكرية واجتماعية لتنضج. الديمقراطية حينما نضجت في أوروبا لم تأتِ على ظهر دبابة، كما لم تؤخذ من بطون الكتب، بل نضجت بظروف الناس، بعرقهم، بخبزهم، استوت على سوقها بعد أن وجدت التربة التي تحتضنها فانزرعت فيها كما تزرع العشبة الملائمة بعد أن توفرت كل الشروط. لدينا مفارقة واضحة ومتزامنة، الحكومة البريطانية تغيّرت بسهولة، وبكل سلاسة، خلاصة المشهد في بريطانيا يتلخص ببساطة في الآتي: زعيم حزب “المحافظين” ورئيس الوزراء البريطاني الجديد ديفيد كاميرون شكّل الحكومة بعد أن وافق حزبه على الدخول في أئتلاف تاريخي مع حزب “الديمقراطيين الأحرار”، وصل كاميرون للسلطة جاء بعد استقالة “جوردن براون” من منصبه عقب فشل جهود حزب العمال لتشكيل ائتلاف مع “الديمقراطيين الأحرار” حزب المحافظين حصل على أعلى نسبة من الأصوات، وفاز بعشرات المقاعد في البرلمان الجديد، إلا أنه فشل في الحصول على أغلبية تؤهله لتشكيل حكومة لوحده. تقدم “كاميرون” بالشكر لسلفه “جوردون براون” قائلاً إنه خدم البلاد بإخلاص، وتعهد أن حكومته ستتعامل بحزم مع التحديات التي تواجه بريطانيا. سارت أمور بريطانيا كما يجب، وتغيرت الحكومة من دون أن يتضرر عش عصفور على نافذة مجلس الوزراء. بينما في لبنان بقت البلاد بلا رئيس لفترة طويلة. والحكومة لم تشكل إلا بعد أشهر. وفي العراق مجازر معنوية ودموية على رئاسة الوزراء. وإلى اليوم كل شيء على ما هو عليه. لقد أثبت التاريخ العربي أن البلدان التي تأخذ الديمقراطية كأولوية يصعب أن تصل أبداً إلى نهوض تنموي حقيقي. كما أثبت التاريخ أن البلدان التي تنهض تنموياً تستقر سياسياً بقوة الواقع. هذه أبجدية يمكن أن نستخلصها من تجاربنا المريرة مع الديمقراطيات العربية، التي فشلت في تحقيق أدنى مستويات التنمية. في الخليج لدينا التنمية هي الأولوية، مع اتخاذ الشورى مبدأً في اتخاذ القرار مع أهل الحل والعقد، أصبح الخليج مزاراً تنموياً، وملاذاً مفضلاً للباحثين عن عمل، وبالذات في الإمارات التي شاهدتُ مسارات التنمية فيها خلال إقامتي التي ناهزت العقد من الزمن. يقول كارل جيرشمان:”الديمقراطية تعتبر نظاماً غير ملائم للدول خارج كتلة الدول الصناعية الغربية”. الديمقراطية نتيجة من نتائج التحضر وليست سبباً، بمعنى أن الديمقراطية تنبت من أسفل ولا تنزل من أعلى، إنها مختلطة بوعي الناس، بمدى تحضرهم ومستوى تعليمهم، ومقدار كسبهم، وبمساحة الحرية الممنوحة لهم. لا يمكن أن تترسخ ديمقراطية حقيقة خارج أرضية حداثية حاضنة. إن التنمية هي اللبنة الأولى التي تذهب بنا نحو تشكيل مجتمع ديمقراطي خلاق. الديمقراطية ليست كمأةً تنتج بالحظ، إنها عشبة نادرة تنتج بالسقي والتعاهد وربما لم تخضرّ إلا بعد مرور عقود وربما قرون.
جميع الحقوق محفوظة 2019