لفت نظري في حديث بيل كلينتون الأخير لمجلة “نيوزويك” أنه ربط بين التخلف الصحي وبين الثقافة في الولايات المتحدة الأميركية. بطبيعة الحال لن ندخل بجدل مفهوم الثقافة، ذلك أن مصطلح تعريف المثقف أو الثقافة مر بإشكاليات كثيرة في فرنسا بالذات خاصةً مع نشاط الثورات الطلابية وظهور مصطلح المثقف الملتزم على يد سارتر، لكن يكفي أن نقرأ كتاب مالك بن نبي “مشكلة الثقافة” لنقف على مشكلة المفهوم ذاته، وارتباكه في حضنه الأصلي في فرنسا، قبل أن يتسلل إلى لغتنا العربية، ليغدو لفظ “مثقف” مرتبطاً بكثرة الحديث والكلام. يشير كلينتون في فكرته -التي لم يستطرد في تفصيلها- إلى معنى هو غاية في الدقة، ويمكن تلخيصه في أن ثقافة كل مجتمع هي قاعدة رئيسية لبقية تحركاته، يمكن أن تسبب الثقافة كوارث على مستوى الصحة، والرياضة، والاقتصاد، والدين، والأمن، وكل مجتمع آمن، وصحي، ويتمتع باقتصاد جيد، وتعليم متقدم، هو مجتمع مثقف بالضرورة. إن طموح كلينتون أن تتحول ثقافة المجتمع الأميركي إلى عنصر يساهم في تطور وعيه الصحي. كيف يمكن لمن قرأ عن ضرر أمرٍ ما أن يستمر في ممارسته ما لم يكن على مستوى من الانفصام بين ما ينظّر له، وما يقوم بممارسته؟! إنه الانفصام بين التنظير والتطبيق! قبل أيام لفت نظري مثقف عربي كبير يستخدم لفظة “تحت جزمتي” موجهاً خطابه لشعب خليجي بأكمله، هذا المثقف له الكثير من الكتب الضخمة والمؤثرة في تاريخ النقد الديني الإسلامي، درّس في اليابان وهولندا، ونال جوائز عالية من جامعات أوروبية مرموقة. لكن كل ذلك العلم لم يطهّر لسانه من الألفاظ النابية! إن المسافة بين ما كتبه هذا المثقف وبين سلوكه هي صورة المشكلة الثقافية الأساسية التي أريد الحديث عنها. أن تتمكن عراقة التخلف من مقاومة كل سنوات الاحتكاك بالمجتمعات المتحضرة، وكل البحوث في الحرية والتنوير والحضارة، لم تطهر لسانه من الحديث عن الآخرين بهذا المستوى من الحدة والشراسة! ينظر المثقف عادة إلى المجتمع، على أنه قطيع من العوام، الذين لا يمكن التعامل معهم بمنطق النخبة، لأن الكتاب الذي يريد المثقف العربي أن يكون مدخلاً للنهضة العربية لن يتجاوز حدود التداول النخبوي، لأن العامة لا تستطيع ترك مخابزها، وأعمالها، للتفرغ لقراءة كتاب عن نقد العقل العربي أو نقد الخطاب الديني. تحتاج المجتمعات إلى خطاب ثقافي يقع بين النخبة والجمهور، كما حدث في أوروبا بالذات. لم يكن المنظّر هو الذي يقوم بتسويق أفكاره، بل إن بين النخبة والجمهور وسيط معرفي هو ما عرف لاحقاً في إيطاليا بالمثقف العضوي، الذي صحح دور المثقف وأعاد دوره إلى العلن، بعد أن كاد ينقرض بسبب غرقه في الأمراض الاجتماعية التي يحذر منها هو كما حصل مع المثقف العربي المشار إليه آنفاً. استطاع المثقف أن ينقل أفكار النخب إلى الصحافة لتقريبها إلى الجمهور. يقول فولغين: “إن الأدب الصحافي، كما نرى، لم يأت بجديد يذكر على الصعيد النظري. لكن تأثيره السياسي المباشر كان مع ذلك عظيماً للغاية. فقد ترجم هذا الأدب –الصحافي- أفكار المنظّرين بلغة أقرب إلى الجماهير، وأسهل عليها منالاً، وطرح القضايا على نحو أكثر عيانية”. هذا هو ما أردته، أن نطوّر مفهوم المثقف، ليشمل الدور الرئيسي في طرح آراء النخب في الصحة والأدب والعلوم، لأن إصلاح الثقافة البوابة الرئيسية لأي عملية إصلاح، وهذا –ربما- ما عناه كلينتون في حديثه عن العلاقة بين تقهقر الصحة وبين ثقافة الفرد. هل يمكننا تجاوز التنظير إلى التأثير، وتجاوز المسافة بين ما نقوله، وما نطبقه؟ حينما نصل إلى تلك المرحلة، فقد وصلنا إلى ذروة الحضارة، وبدأنا نشق طريق النهضة.
جميع الحقوق محفوظة 2019