عرفتُ محمد عابد الجابري من خلال كتبه أولاً، والتي كنا نتداولها في التسعينيات الميلادية. كانت بالنسبة لنا كنزاً مهمـّا. وجدتُ في تناوله للتراث الإسلامي فتحاً جديداً ساهم في التأثير على رؤيتي للتراث. وأذكر أن من بين أكثر كلماته تأثيراً قوله: “يجب أن ننتقل من كوننا أمةً تراثية، إلى أمة لها تراث”. ليست المشكلة في التراث وإنما في كيفية استثماره كرأسمال معرفي أساسي في تغيير علاقتنا مع العصر والعالم. كنتُ بحكم دراستي الإسلامية أجد في الجابري وكتبه فرصة لـ”نخل” ترسانة المعلومات التي نتلقاها من دون تفكير أو تأمل عقلي.
قابلتُه في أبوظبي كثيراً. بقي خارج سياق عنتريات بعض المثقفين. كان القلق الفلسفي هو مُحـفـّزه الرئيسي على الكتابة والتأليف. يقول ابنه عصام: “رحل والدي من دون أحلام كبيرة، وبقلق فلسفي عظيم”. وحينما قابلتُه في “إضاءات” ( يوم 24-10-2008 ) ذكر لي أن كتابه “نقد العقلي العربي” أُلّف عنه أكثر من 2500 رسالة أكاديمية في أنحاء العالم. فهو أكثر المفكرين العرب إثارةً للسجال الفكري. وصدق إبراهيم أغلان حينما قال إن الجابري:”علّم الناس كيفية التعامل مع النص الفلسفي والتراث”.
في السعودية كانت كتبه محورية في تأسيس جيل من الشباب القراء الذين أخذوا خطاً مختلفاً عن السائد في تعاملهم مع الفكر الديني والتراث. وحينما برزت “ظاهرة العقلانيين” في نهاية التسعينيات، عبر الصحف والمواقع والمنتديات” كانت كتب الجابري انطلاقة أساسية لتلك الظاهرة. كتابات الجابري تـُعلّم الناس أن الفكر الديني ليس بالضرورة هو الدين. وأن التراث الإسلامي تأثـّر وتشكّل في ظروف بشرية. وأن الأمم تتقدم منطلقة من نقد تراثها ليتحول من عائق إلى دافع. من هذه البدهيات ينطلق الجابري في مشروعه الأساسي “نقد العقل العربي”. الكتاب الأشهر الذي ذاع صيته وتـُرجم إلى لغات كثيرة وصار مرجعاً رئيسياً لفهم التراث في أوروبا بالذات.
قال أبو عبدالله غفر الله له: ورزيّة رحيل مثل هذا العالم والمفكر الاستثنائي كبيرة. لقد نال من التقريع والتضييق من قبل مجتمعه العربي الكثير… الكثير. جرّاء استهدافه اسماً وفكراً، تحت ذرائع ليس أقلها أنه يريد تشويه التراث أو أنه يطمح إلى هدم الإسلام! بينما هو باحث عن الحقيقة عبر أدوات فكرية وفلسفية عميقة. نأمل أن تجد كتب الجابري المنهجية طريقها لتصبح كتباً كلاسيكية تـُقرأ من قبل المهتمين بالفكر الديني في الجامعات والمؤسسات الدينية عامةً. تغمد الله الجابري بواسع رحمته.