ليس للمحقق الألماني ديتليف ميليس أي مصلحة في الكذب فيما يتعلق بتقريره لتقصي الحقائق في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري رحمه الله، والذي سلم الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان نسخة منه ليل الخميس الماضي، وأعلن التقرير للصحافيين والإعلاميين في وقت مبكر فجر الجمعة الماضي·
السيرة العملية للقاضي الألماني الشهير تمتد إلى أكثر من عشرين عاماً في فك طلاسم أكثر القضايا الإجرامية التي تعرضت لها أوروبا تعقيداً·
في قضية اليوم يقود ميليس فريق محققين من 100 محقق، تحدثوا إلى 300 شاهد، كما قام بإعادة تفحص مكان الانفجار الذي أودى بالحريري و20 شخصاً آخر في موكبه بطريقة مفصلة· ولعل الأهم من ذلك أنه حمل أناساً مترددين على المثول أمام لجنة تحقيقه من أجل تقديم المعلومات عن الجريمة ويوم 12 من الشهر الماضي، تمكن من أخذ موافقة الحكومة السورية على استجواب عدد من ”الشهود السوريين” وهو ما قام به قبل أسبوعين تقريباً، بشكل لا يمكن إلا أن يستوجب الاحترام لاحترافية الرجل والتسليم بعلو كعبه ورقي مهنيته·
منذ الساعة الأولى لإعلان مقتل الحريري بعد ساعتين من التفجير، كانت تصريحات السوريين تنفي أي علاقة سورية في الموضوع، ثم تحولت إلى اعتبار من شارك في اغتيال الحريري من السوريين خائناً طبقاً لتصريحات الرئيس السوري بشار الأسد قبيل إعلان التقرير العاصف المدوي، ثم إلى أن ميليس أداة لواشنطن لإدانة سوريا، ثم صبغت التصريحات السياسية واللغة الإعلامية لدمشق بجملة غريبة وهي أن تقرير القاضي ميليس تم تسييسه!
يبدو أن هذه الجملة تسربلت إلى اللغة السورية عن طريق مستشار قانوني متسربل بالجنائيات المحضة، ومشبع بتحريم التعاطي مع السياسة، وسار الباقون على قاعدة: سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته!
رفيق الحريري ليس مزارعاً لا يعرف من دنياه إلا البذور والسماد والري والحصاد· ولا خبّازاً لا يعرف إلا الخميرة والعجينة والوقوف في فوهة الأفران، بل كان سياسياً يحترف السياسة منذ السبعينيات، وتفجير موكبه لم يأت على خلفية صراع مالي باعتباره مليونيراً، بل جاء بالنظر إلى مواقفه ولجهة معاقبته على قرارات ساهم في تهيئة أجوائها صدرت من الأمم المتحدة وتتحدث بلغة حازمة عن العلاقة بين سوريا ولبنان· وأصابع الاتهام أو حتى دوائر البراءة في قضية اغتيال الحريري لا تحوم إلا حول دول وقوى سياسية، فكيف لا يكون مع ذلك كله التقرير سياسياً؟! القضية سياسية جنائية يا سادة، وأنتم تريدونها جنائية فقط!
تبدو كرات السبحة السورية في طريقها إلى أن تكر، مكررة سيناريو السبحة العراقية، وإن بطريقة مختلفة، وهذه ليست نبوءة أو رجماً بالغيب، بل هي رؤية تستطيع جدتي رحمها الله لو كانت حية الإدلاء بها حتى قبل إعلان تقرير ميليس والذي أثار شبهات حول سوريا والاستخبارات اللبنانية، ويقول إن وزير الخارجية السوري فاروق الشرع حاول تضليل التحقيق!
”اللي على راسه بطحه”، كما تقول العامة، وهم يقولون أيضاً: ”اللي في بطنه ريح·· ما يستريح”، وكثير منهم بات يقول: ”اللي في بطنه ريح··· يضلل التحقيق”·
أرجو ألا يكون إعجاب المسؤولين السوريين بموقف الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين خلال محاكمته قبل أيام قد أغراهم بالمضي قدماً في طريقه! أقول أرجو لأن قلبي على سوريا وأهلها··
جميع الحقوق محفوظة 2019