مهمة الباحث أن يعيد الظواهر الاجتماعية إلى جذورها الفكرية، بعض المصطلحات تكونت بمؤثرات عديدة، وبتأثير من الصراعات السياسية التي حدثت وأثرت على المعنى الذي يحمله المصطلح وحوّلته وحورته عن مضمونه الأساسي. وإذا عدنا لمفهوم “الحسبة” الذي أخذ مساحته في تاريخ الفكر الإسلامي، سنجد أنه مر بظروف جعلته متعدد الاستخدامات، استخدم أحياناً للتعبير عن خلافات شخصية تحت اسم الحسبة، وفي أحايين أخرى استخدم سياسياً على يد بعض الظلمة الذين أرادوا الاقتصاص من خصومهم كما نقرأ في سياقات التاريخ. في نوفمبر 2006، فوجئ الناس بمجموعة من المتحمسين وهم يركضون متجهين إلى مسرح “كلية اليمامة” في مدينة الرياض، حيث قاموا بتكسير خشب المسرح وملاحقة الممثلين والاعتداء عليهم. تلك الحادثة اعتبرها المنفّذون للاعتداء شكلاً من أشكال الاحتساب ضد المعاصي! وفي معرض الكتاب بالرياض خلال السنوات الماضية، شاهد الناس باستغراب الاعتداء والإساءة لأناسٍ بسطاء جاءوا إلى المعرض مع أبنائهم وذويهم لاقتناء الكتب، راحوا يمشون في المعرض، وهم يؤنّبون هذه المرأة ويصرخون في وجه ذلك الرجل، وربما كان أولئك الناس بسنّ آباء أو أجداد تلك الثلة من المحتسبين! مفهوم الاحتساب تعرض لاستغلال من قبل تيارات حركية تحاول أن تستغل المفهوم لتحقيق أجندتها ومكاسبها الشخصية. في يونيو 2009 صدرت الترجمة لأضخم عمل علمي يبحث في تاريخ معنى الحسبة، وهو للباحث الأميركي: “مايكل كوك” واسمه: “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، في تسعمائة صفحة راح الباحث يتحدث ويبحث في المفهوم منذ نشأته، درسه من خلال الآراء الفقهية لأئمة المذاهب الإسلامية، فاحصاً المؤثرات السياسية والاجتماعية على السياق الذي أخذته معاني الحسبة المتعددة، صاغت بعض المذاهب معنى الحسبة وفقاً لفهمها الخاص ومؤثراتها الخاصة، يرصد الكتاب تطور ونمو المفهوم على مدى قرون، ولم يكن منتمياً مع مذهبٍ ضد آخر، وهذا ما يمنحه الموضوعية العلمية، وجعل الكتاب نفيساً وثرياً. ابن خلدون في المقدمة يربط الحسبة بأخلاقيات وآداب الإنسان تجاه المجتمع الذي يعيش داخله، ويعتبر الحسبة ليست في إنكار المسائل الدينية، وإنما أيضاً أن يحتسب الإنسان في المسائل المدنية، لتكون شكلاً من أشكال التضامن الاجتماعي ضد الأخطاء التي تهدد نسيج المجتمع، يقول ابن خلدون:”أما الحسبة، فهي وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي هو فرض على القائم بأمور المسلمين، يعيّن من يراه أهلاً له، فيتعيّن فرضه عليه، ويتخذ الأعوان على ذلك، ويعزز ويؤدب على قدرها، ويحمل الناس على المصالح العامة في المدينة مثل المنع من المضايقة في الطرقات”. وإذا كانت السعودية قد خصصت جهازاً متكاملاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا معنى لتدخل بعض الغاضبين لاستخدام هذه الشعيرة في ضرب الخصوم، وإشارة ابن خلدون إلى دور الحسبة في “المصالح المدنية” ضرورية، فالمخالفات المدنية التي تتعلق بالغش أو التهور المروري، أو أي خلل أمني هو جزء من أجهزة الحسبة. الكارثة، أن شعيرة الحسبة صارت كلأً مباحاً لبعض أصحاب التوجهات المتطرفة، من الذين يحزنهم تحرك المجتمع نحو العصر والحياة، يذهبون إلى الآمنين في الحدائق والمتنزهات والمعارض الراقية، ليفسدوا على المجتمع لحظات حركته، لكأنهم يعتبرون جهاز الهيئة الحاضر في الواقع ليس كافياً، آخذين من التجمع والتحرك أفواجاً نحو المناسبات والمؤتمرات فريضة ذاتية على أنفسهم، معيدين بممارساتهم أخطاء من سبقهم، الخلاصة أن ادعاء الاحتساب وحده لا يكفي، فجيهمان نفسه كان يرى في نفسه “محتسباً”! لابد أن نعيد فهمنا لمعنى الحسبة، وفق المستجدات المدنية التي نعيشها. الحسبة حين بدأت كانت تبدأ بالرقابة على الدكاكين قبل الرقابة على ثياب الناس وأزيائهم.
جميع الحقوق محفوظة 2019