من صيغ المعرفة الأساسية الانفتاح على الآراء الأخرى، وإجراء حوارات معها، والبحث عن إمكانات تعطل الفكرة، أو استمراريتها.
النتائج المعرفية والعلمية، بعضها يُبنى على بعض، وتاريخ العلم هو «تاريخ أخطاء»، كما يقول غستون باشلار.
في هذا المجال طرح كارل بوبر، فكرته حول «التكذيب»، حيث يعتبر النظرية التي لا تقبل التكذيب، نظرية غير علمية بالضرورة. والحوار شرط المعرفة، فمن دون الحوار، تتحول النتائج إلى حقائق متطابقة، عديمة القيمة، ولا تؤسس جيلاً معرفياً سليماً.
وإجراء الحوار يؤسس للتسامح في العلوم والمعارف، فلا تطغى حقيقة على أخرى، ولا تكون الحقائق المطقّمة والمعلّبة هي الحاكمة بين جموع المتعلمين، فللخطأ حضوره وهامشه، وللاحتمال دوره في تعزيز قيم العلم والتعلم.
من أخطر ما يمكن أن نفتقر إليه غياب الحوار لصالح حضور التناحر، وكأن الأفكار التي نملكها، أو نتائج البحث التي توصلنا إليها، أو صيغ الفهم التي اكتسبناها، هي النهايات الكبرى، والحقائق المطلقة، التي يتوجب على الآخرين امتثالها واحتذاءها.
يقول الفيلسوف الإنجليزي كارل بوبر: «إن تحقق تقدم حقيقي في العلوم يبدو مستحيلاً من دون تسامح، وبغير إحساسنا الأكيد أن بإمكاننا أن نذيع أفكارنا علناً، مهما كان شأن النتائج التي تقودنا إليها تلك الأفكار.
من هنا فإن التسامح والتفاني في سبيل الحقيقة هما اثنان من المبادئ الأخلاقية، التي تؤسس للعلوم من جهة، وتسير بها العلوم قدماً من جهة ثانية. أما المبدآن الأخيران المماثلان؛ فهما التواضع الفكري، والمسؤولية الفكرية.
والإلحاح على أننا لا نفكر بأنفسنا، بل بالحقيقة، والحفاظ على الدنو النقدي من كل المعضلات حتى النهاية»، بينما يعود الفضل إلى الكِندي في تأسيس قضية التسامح على الصعيد الفلسفي، وهو ابتداء يعرّف الفلسفة بأنها: علم الأشياء بحقائقها بقدر طاقة الإنسان؛ لأن غرض الفيلسوف في علمه إصابة الحق، وفي عمله العمل بالحق.
التسامح في ميادين التعلم والمعرفة، يسهم في بث روح التعاون والحوار في المجتمع، والأمم التي تفقد أساليب الحوار، لصالح التناحر والصراخ، تنتج أزماتها وعنفها بالضرورة.
لا يمكن فهم العلوم وأسسها، والتعاون على تجديد المعادلات والحقائق والوسائل، إلا بحوار يفتح مجالات التسامح. لقد دأبت الثقافة العربية ردحاً من الزمن على وراثة القناعات من دون التحاور حولها أو النقاش فيها، بينما تأسس العلم الحديث ممتداً من الإرث اليوناني الإغريقي القديم، القائم على المحاججة، والمحاورة، وعلى رأسها محاورات أفلاطون، التي لا تزال تغني البشرية، وتمدها بالقيم المعرفية الكبرى.
حين تستطيع الوزارات التعليمية في العالمين العربي والإسلامي، بث إمكانات الاحتمال في شتى الحقائق المعرفية، يمكنها أن تقيم صروحاً حقيقية للتسامح، يكون الحوار مشعلها ونبضها، وليت أن الحوار يتحول إلى مادة تدرّس في المناهج، للتعرف على أبرز المحاورات في تاريخنا الإسلامي، وهي ما عرف بـ«المناظرات»، إذ تفتح هذه الملفات والمطالعات كوّة على أسلوب الحوار، بوصفه أداة للتعايش والتسامح والتعلم، وإلا كيف يتعلم من لا يمتلك قيم الحوار وأساليبه؟!
مفكر عربي كبير، هو سلامة موسى نظّر حول التسامح مبكراً في الثلث الأول من القرن العشرين قائلاً: «وليس من شيء يعمل للحرية الفكرية، ويضمن بقاءها، ويحث على الدفاع عنها مثل الثقافة الواسعة المتشعبة، لأن الوقوف على الآراء المختلفة والمتناقضة يشبع القلب بروح التسامح وكراهية التعصب».
المعرفة التي لا تؤسس بالحوار، ولا تقود إلى التسامح، ترتد على أصحابها بضرر كبير.