يمكن أن نعتبر السنة الحالية والتي شارف نصفها على الانتهاء هي سنة التأمل، كتبنا في سنة 2011 عن الأحلام، عن الرغبات والطموحات، لكن التحولات التي تطرأ الآن ليس بصالحنا دائماً. التظاهرات الدائمة، والجنون الميداني المتنامي كلها تحوّل الحدث إلى كونه مجال اختبار وليس مجالاً للتزيد والادعاء. مصر أو تونس، الدولتان اللتان شهدتا الكثير من الأنماط الثورية والتحولات المتعددة لابد لهما من إعادة تأهيل. ليست كل الأحداث متشابهةً إنجازها. اليمن يغيب إعلامياً، أما في مصر فالاستمرار بالثورة على النحو الذي هو عليه لا يطمئن أبدا، غاب التأمل وحضرت الأحلام بكل عفويتها وسذاجتها. منذ سنة 2011 والكلام الذي يكرر حول الثورات لم يختلف كثيراً، القليل من الكلام المتميز، ولعلي أضرب مثلاً بالمفكر مراد وهبة والذي ظهر مع الزميل محمد الورواري في قناة “العربية” كان يتحدث عن التحولات التي يشهدها المجتمع العربي، وكذلك الحدث المصري تحديداً، بالتأكيد أن مصر وتونس بينهما أمور مشتركة، منها إنجاز الثورة بأقل ما يمكن من الخسائر، ولكن على حساب الكثير من الخطاب العقلاني، يندب مراد وهبة وصول الإسلاميين إلى الحكم ويتساءل عن علاقة هذا الوصول بأساس الثورة ومعناها، وقد صدق بتأمله، فوصول هؤلاء إلى سدة الحكم لا يعني إلا أن الثورة قد أجهضت أو تعثرت أو انتهت على أقصى تقدير. كان يمكن للتأمل أن يحل الكثير من الأزمات والشرور، وأن يكون التفكير هو الحل، وهو مصل ضد ممارسة السلطة ضد الآخرين. في مصر أو غيرها الكثير من المختلفين بأفكارهم وأديانهم، وأن تجير السلطة لطرفٍ دون آخر يعني الإلغاء والطمس للفئات كلها، وهذا هو وجه الجنون في قصة الثورة العجيبة. في الأحداث المصرية الأخيرة، طرحت المبايعات لشخصٍ لم يصل إلى السلطة أصلاً، وقد توافدت الجموع باحثةً عن نصرته، وحدثت اشتباكات خطيرة، وكان لها أكبر الأثر في تغيير صورة الناس عن الثورة المصرية، بل وقال بعضهم إنه بايع ذلك الشخص على”الدم” وكأن السياسة تحتمل الدماء بمصر، ولا أدري إن كان هذا السياسي أو ذاك يعي العمل الخطير الذي يقوم به. أن يبايع شخص ما على الدم حتى من دون أن تبدأ الانتخابات يعني أن عقليات التصفية والاغتيال، بل وإمكانيات الحروب الأهلية لا تزال قائمة. ربما يصدم البعض بالتحليل الذي أطرحه، حول إمكانية تحول الثورات القائمة والتي أنجز بعضها إلى حروبٍ أهلية، لكنه ليس تحليلاً متشائماً، وإنما تحليل أساسه إيضاح الممكنات والمستحيلات. في ليبيا حدثت الحرب الأهلية بكل سوئها، وأخشى أن تمتد إلى مناطق أخرى. العقلية التي تعتبر الشخص المرشح مقدساً ومنزهاً عن كل العيوب ولا بد من الانتصار له عقلية خطيرة، وكل الأحداث التي تجري الآن لا تدل إلا على مكمن الحرب الأهلية وخطرها. مصر اليوم ليست هي مصر الأمس، والعقلاء الذين يسكنونها على شاكلة المفكر الرائع الكبير مراده وهبة أو غيره يعرفون أدواءها، ويعتبرون سنة 2012 هي سنة التحليل والتأمل، وليست سنة الشعارات والمزايدات، لهذا فإنني أقترح أن نبدأ التحليل وأن نترك المزايدات الغريبة التي لا تأتي إلا بالدماء والحروب الأهلية والدمار المطلق، ومصر سيعرف أهلها وبعضهم يعرف الآن أن خيار الإسلاميين للحكم ليس جيداً، بل سيكون ضاراً على المدى المنظور قريباً أو بعيداً، سيعلمون إن هم بدأوا بالتأمل العقلاني، بعيداً عن الشعارات العاطفية. وهذا ما أتمناه على المصريين أولاً، وعلى كل البلدان الثورية ثانياً، المزيد من التأمل.
جميع الحقوق محفوظة 2019