غربي السعودية، بين الجبال وحيث القداسات، ولد الصحافي الأكاديمي السعودي الدكتور عثمان محمود الصيني، عام 1955، في أقدس بقاع الإسلام (مكة المكرمة).
فتح الصبي عينيه أول مرةٍ، على واحدةٍ من أكثر المدن تعدديةً، واخْتلافاً، فرأى الأعْراق المتباينة، والأشكال المختلفة، والألوان المتنوعة، والطقوس الديْنية التي لا تنتهي، حيث تلبية وتكبير ملايين الحجاج المعتمرين، آتين من كل فجٍ عميق.
هذا الصبيّ الشقيّ، تلمع عينيه مع كل مشهدٍ، من تلك اللحظات الأثيرات، ومعها، تخلّقت بِذْرة الملاحظة، لدى الصحافيّ الأديب الأكاديميّ القدير عثمان الصيني.
شغف الصينيّ، منتهى الشغف باللغة العربية، أصولها، وتنوعها، درساً، ومنهاجاً، فحاز فيها، على شهادة الماجستير في عام 1982، والدكتوراه في عام 1990، من قسم اللغة العربية بجامعة أم القرى بمكة.
وقاده حبه للغة العربية، ليسلك دروبها، فعكف على دراسة اللهجات، وساقه الافتتان بمعرفة الغوامض من القول، إلى الولع الشديد بالصحافة، ليكون من أبرز الأسماء الصحافية، السعودية، في العقود الأخيرة.
تنقل عثمان، بين مطبوعاتٍ، ومهماتٍ، ومسؤولياتٍ في الصحافة والإعلام. أعجبته وأعجبها.. وقع الحافر على الحافر، فكان الأكاديمي الذي طوّع الصحافة، ولم يقع في فخ الامتلاء النظري، قبالة الضعف العملي، وهو نموذجٌ يندر، تكراره في بلاط صاحبة الجلالة.
البدايات: الجدّ المهاجر… المعلم اسم صاحبنا: عثمان بن محمود بن حسين الصيني…
منذ ما يقارب التسعين عاماً، رحل الجدّ حسين من موطنه، بشمال غرب الصيْن، حيث يسكن مسلمو تلك البلاد، قاطعاً جبال الهملايا، تجاه ميناء كراتشي بباكستان، ليبحر منه صوب بوابة الحرمين، جدة في طريق حجٍ وعرٍ خطرٍ طويلٍ، إذ تستغرق الرحلة أشهراً، وربما تجاوزت العام الكامل!
ورّث الحاج حسين صفاته التي لازمته حتى وفاته (رحمه الله) لأبنائه. وفي الصدر من هذه الصفات: الصبر، والتفاني، وإتقان العمل.
وفي رحلةٍ، ماتعةٍ، يروي عثمان الصيني، للزميل، مفيد النويصر، ببرنامج mbc: «من الصفر» أنه كان يتبضع مع جدّه للبيت من السوق الكبير، فيحملان الزنبيل خفيفاً ذاهبين، وبعد التبضع يمتلئ الزنبيل، فتثقل خطى الجدّ المتكئ على عصاه، بينما يعجز الطفل الصغير عن حمل الزمبيل، فيأخذ الجدّ العصا ويمدها عرضاً، ليكون طرف عند حفيده، والآخر عنده، معلقاً الزمبيل منتصف العصا، والشق الأثقل بيد حسين، فيما الأخف بيد صغيره. ويحدث أن يشفق عليهما سائقٌ، فيقلهما بسيارته إلى البيت.
يقول عثمان: «عاهدت جدّي، لاحقاً، أن أقل، إذا امتلكت سيارةً، كل من تراه عيني ماشياً».
طريق الحياة الوعر.. مهنٌ لا تفقد بريقها وصل الجدّ حسين مكة حاجاً، لكنه قرر أن يجاور الحرم، فينتقل ليسكن في مكة بجوار المسجد الحرام، حيث الطائفين، والعاكفين، والركّع، السجود، وحلقات الدروس الدينية تتناثر في صحن المطاف، وفي أروقة بيت الله العتيق. كان حسين شيخاً شغوفاً بتعلم علوم الشريعة، خصلة أورثها الجدّ للحفيْد، فيما أفرغ الأب، محمود بن حسين كل طاقاته في الكدّ والعمل لتأمين لقمة عيش أسرته المكونة من والده ووالدته وزوجة محمود وأولادهما.
عمل محمود في الصناعات الحديدية البسيطة، وخصوصاً صناعة السحّارات، كما عمل في حياكة الطواقي، ونظم السبح، وهي المهن التي تفرضها اقتصاديات مكة، آنذاك. وباع عثمان في طفولته الطواقي، والسبح، والكروت التذكارية أمام دكّان والده بباب السلام. هذه البضائع يعرف عثمان آليات تسويقها، بل ويتعدّى إلى غيرها، فتراه ينظر إلى أنواع الأقمشة، وزخرفات الزينة، ويميّز بين السكاكين والخناجر، ولو سألته، لأطنب متحدثاً عن أصل كل خنجر، ونوع كل سكين، فقد تجذرت معلومات البضائع، في ذاكرته، وهكذا تفاصيل كل أمر يهتم به، حيث تنقش معلوماته في رأسه نقشاً، فكيف ينسى؟!
بدايات الطلب في رحاب الحرم
نشأ عثمان في كنف جدّه، وقدمت له حلقات تعليم الشريعة بالحرم، حيث تتنوع بين المذاهب الفقهية، قبول التنوع، والاستعداد للانفتاح على الثقافات المتباينة، وتفهم الآخر المختلف. طلب العلم مع الجدّ في حلقات مذاهب فقهيةٍ متعددةٍ، وتعلم القرآن بالقراءات المختلفة، فمن قراءة حفص عن عاصم؛ إلى قراءة ورشٍ، ما منح الطفل مناعةً ضد التعصب لفكرةٍ، أو اعتقاد الصواب المطلق في رأيٍ فقهيٍّ، ورفض غيره، فضلاً عن المنازلة لإثباته.
الجانب الآخر، الداعم لتعددية عثمان الصيني، يكْمن في براغماتية التاجر، إذ نشأ في بيتٍ مكافحٍ، فوضع نصب عينيه حفظ أنجح طرق التعامل مع الزبائن. تعلم لأجل ذلك قليلاً من لغاتٍ عديدةٍ، منها: الإندونيسية، والنيجيرية، والأوردية، والتركية، والفارسية. التعامل مع اختلاف المذاهب الفقهية، وبراغماتية السوق، صاغا على مهلٍ، وشكلا على عينه، بمستوياتٍ مرتفعةٍ من الرقة، والروقان، شخصية عثمان المرنة.. التي يسميها صديقه، ورفيق عمره الدكتور عالي القرشي: «مراوغة الموقف»، إذْ يتلافى صاحبنا، كل ما يجْلب الشقاق، ويسْعى بكل ما أوتي لتجنب الاصطدام، لا خوفاً، بل تسامياً عن الصغائر، وكأن شعاره: لن أتدافع مع الآخرين على الجيف!
يدخل بهدوءٍ.. ويخرج بهدوءٍ.. لا يتذكّر إلا أطيب الأشياء، وإلاّ فقد اتخذ الرجل الصمت، صديقاً صدوقاً.
الاحتفاء باللهجات.. دار التوحيد والسوق!
التحق عثمان بدار التوحيد بالطائف، ويعتبرها نقطة تحول في حياته، أتاحت له الاقتراب من مكونات المجتمع كله، مما سهل له التقاط عادات القبائل، وتباين اللهجات واختلافها، والتنوع الشعري من قبيلة لأخرى ومن منطقة لأخرى، فما بالك بالأنساب، التي بات الصيني بها عارفاً خبيراً، يبرز بمعرفته المختصين كافة.
وجود عثمان في السوق، وتعامله مع البدو والحضر السعوديين وغيرهم، أضاف له معرفة بتباين الأشعار، وهي وسيلة التأريخ الرئيسية في الجزيرة آنذاك، واختلاف اللهجات من بين القبائل والمناطق.
يقول الصيني: «تخرجت عام 1976، وذهبت في زيارة إلى عسير، وكان هدفي من الزيارة إضافة للسياحة، أن أتعرّف على أماكن سكنى زملائي».
في روايته هذه يسرد الأسماء، وكأنه يشاهد خارطة كبيرة تنتصب أمامه، يطرز روايته، بذكر مزايا شمال المنطقة وجنوبها، وتفاصيل عاداتها، ويمايز بين رقصات أهاليها، مفرّقاً تفريق العارف المتبصر بين رقصة أهل الجبال والصحراء، وحداء أهل الوادي، وأهل الجبل، وطبقة صوت سكان السهل، مقارنة بطبقة صوت سكان المرتفعات. ويضيف للمعلومات تحليلاً نفسياً عميقاً يسرد أسماء الناس والمناطق، والعادات، وكأنه ترعرع في تلك المنطقة، ولم يبرحها طوال عقود عمره التي توشك أن تعانق العقد السادس.
وأنت تستمع إلى الصيني، تسرج خيْلك لاقتفاء معنى هنا، ومكاناً هناك. وسترى فيه رجلاً يشبه في التقاطاته الاجتماعية النابهة جان جاك روسو، وهو يدون كتابه: «محاولة في أصل اللغات»، أو شاعراً سكب شاعريته على منهجية الباحث، مثل عبدالرحمن الأبنودي، وهو يتقفى سيرة الهلاليين. عثمان الصيني السعودي الكبير علماً، ومهنيةً، وخلقاً، وتواضعاً، لا يقل في أسلوبه السهل، الممتنع، وسرده المشوق، ببلاغة لا يشوبها تقعرٌ عن الإذاعي البديع عبدالعزيز العروي راوية الحكايا التونسي الشهير.
هذا الشغف عند عثمان الصيني جعله لا يقنع، بذكاء المراقبة والالتقاط، وبراعة التفريق والسبر والتقسيم، بين اللهجات والعادات، بل أزّه أزاً، وذهب به إلى الجامعة، لمنهجة ما نبت لديه من اهتماماتٍ، وقراءاتٍ، عزّزها بضرب أكباد الإبل، سفراً ورحلةً في طلب الوقوف على رصيده المعرفي من أفواه الناس، ناقلاً تصرفاتهم، وصفاتهم لا عبر وسيطٍ، بل بشهادة عينيه التي لم يكن لصغر حجمهما أثرٌ عكسي على عثمان الذي كان يكبر كل يومٍ معرفياً، وإنسانياً، وقبل ذلك وطنياً، فكل معلومة جديدة يعرفها عن وطنه وإنسان بلاده تزرع نخلةَ ولاءٍ، وتنبت ثمرة عشق للوطن.
في الجامعة التقى بالدكتور خليل عساكر، وللصيني وفاء نادر يبذله لهذا الرجل، إذ لا تكاد تسمع مادةً يحلل فيها أبو حازم (كنية عثمان الصيني) اللغات؛ إلا وفي رأس مراجعه الدكتور عساكر تقدير لعلمه، وإجلال لمكانته، إنها ممارسة الكبار مع أساتذتهم ومشايخهم الذين أخذوا العلم من أفواههم، وثنوا الركب في حلقات علمهم، ولو كانت مدرجات جامعية.
ويبدأ الحكاية بتأكيد فرادته، وهو عجيب بحق، إذ يتقن -هذا الـ عساكر ولاحظ أنه جمعٌ لا مفرد- 16 لغةً حيةً ومندثرة، ومنه أخذ الصيني الاهتمام بالأطلس اللهجي. استبطن الصيني هذه المعرفة، ووظفها لإنتاج آرائه اللغوية التي تظهر فيها براعته، وتبحره في فقه اللغة.
الأكاديمي: في رحاب الجامعة وبين الزملاء
وكأن الشاب الذي لا يزال يتحدث مع عائلته في البيت بلغتهم الصينية الأم يكرر قصص أئمة اللغة المتقدمين الذين خدموا العربية رغم أن أصولهم ليست عربيةً، وفي سيبويه، مثالٌ يغني عن غيره. لم تخْلُ الجامعة من صعوباتٍ، هنا، ومنغصاتٍ هناك. مكافأة الجامعة كانت لا تقيم أود شابٍ في عمر عثمان حينها، خلافاً لمشكلة تعثرها وعدم انتظامها، ما جعل الشاب النّابه، والتاجر الصغير يبحث عن مخرج ولو كان حيلةً.
اشترى كتاباً، مختصاً بأدعية المناسك، وحفظ أدعية الطواف والسعي، واشترى جُبّة (عباءة) ممُطَوِّفٍ بخمسين ريالاً تقاسمها مع زميلين آخرين، كانا يستخدمان ذات الجُبّة، كلما أَنّ جَيبُ أحدهم، يشكو فراق الريالات!
أجرةُ تلقين الحجاج والمعتمرين الأدعية، كانت عشرة ريالات لكل حاجٍ. وما إن يهُذُ عثمان الأدعية على ثلاثة معتمرين، ويضع في جيبه ثلاث عشرات، حتى يعود راكضاً، وقد امتلأ سروراً وحبوراً، لإكمال رحلة العلم والدراسة.
فتنة الشغف العلمي والنهم المعرفي، عند الصيني لم تقف عن اللغويات واللسانيات، بل امتدت لتشمل المخطوطات، وكانت مكتبة الحرم المكي، ومكتبة جامع عبدالله بن عباس بالطائف كصومعتين يقضي فيهما عثمان الساعات، يتقلب بين مخطوطة وأخرى، مسجلاً الملاحظات، حتى لا تخونه ذاكرته، تلك التي يصفها زملائه بالذاكرة التصويرية. وضمن هوَسه العلمي، فهرس مخطوطات مكتبة جامع ابن عباس، كاملة، في عملٍ علمي مجانيٍ، يندرج ضمن إيمانه العجيب بالتراث، إذ يراهُ السبيل لاختراقٍ حضاري، وينظرُ إلى اللغة، بوصفها وسيلةً، لتذليل العقبات بين البشر، وكما مرّ زهوّه بأستاذه عساكر، فهو هنا، يجيّر هذا الزهو لاستجلاء فكرةٍ مُرَكَبَةٍ، كتبها صبيحة انفصال جنوب السودان عن شماله، فقال عن فرصةٍ يراها ضاعت: “ما يهمنا هنا ما قام به الدكتور خليل عساكر، وهو من تلامذة بروكلمان وبرجشترسر وكراوس، حيث وضع أسلوباً لكتابة لغتهم – يعني قبائل جنوب السودان (الدينكا والنوير)- بحروف عربية، كما قام بطباعة بعض المناهج، وفق أسلوب الكتابة التي استفاد فيها من المستشرقين الألمان، وبدأت البعثة التعليمية المصرية بتدريسها في تلك المناطق، ثم دخلت السياسة في ذلك، فكان الوأدُ مصير المشروع”. ويذهب لفكرة خارج الصندوق إذ يقول:”أتخيلُ… ماذا لو نجح المشروع؟ وارتبطت أكبر قبيلتين في جنوب السودان وهما الدينكا والنوير بالحروف العربية، مدخلا إلى الثقافة العربية، ولم تكن أصولهما الزنجية عائقاً في انصهارهما ضمن النسيج العربي في السودان، ليصبح تعدد الأعراق والثقافات واللغات، عامل ثراء وغنى للمجتمع السوداني، بدل أن يكون عامل فرقة وصراع وقتال دموي شرس، كالذي يجري (آنذاك) في جنوب السودان وفي دارفور”. ومع أنك قد تختلفُ مع نتائج الفكرة، إلا أنّ الإيمان بقيمة اللغة القصوى، وقدرتها على إحداث الاختراق الثقافي، لدرجة صناعة حالة تآلف، بدلاً من حالات الاختلاف والتصارع، وجعل اللغة في منزلة تستطيع هزيمة الجغرافيا، وإخضاع السياسية للغة، هو مربط الفرس، وبيت القصيد. إن عشقَ عثمان الصيني لتخصصه، حدّ الهيام، جعَلهُ يبحرُ فيه، ويبتكر نظريات تبدو لغير المختصين مثلنا على الأقل أفكاراً خارج الصندوق. هذه المحبة، للمهنة والاختصاص، والتي كانت أحد ما وَرَثَهُ الجدُ لأسرته، كما مرّ معنا، هو أحد أسباب صناعة مجتمعات علميةٍ، عمليةٍ، منتجةٍ، خلاّقةٍ، توَظّف تخصصاتها الإنسانية، لخدمة الإنسان، والمجتمع، والمؤسسات، والأوطان.في صغره شغف عثمان بالقصص المصورة مثل: سوبرمان، الوطواط، لولو، بونانزا. الجَدُّ الجاد المحافظ، لم تعجبه هذه القصص، فطلب من الحفيد قراءة ما يفيد. خصَصَ الفتى الذكي موقعاً تحت سرير خشبي ليكون لقراءاته التي يعترض عليها جَدّهُ. قرأ تحت السرير، ألف ليلة وليلة، وسيرة عنترة.
في عز صدامات الحداثة مع التقليدين في الثمانينات في السعودية، كان عثمان أحد عرابي الحداثة، ومنَظّريها، فكتب المقالات وسطّر الأبحاث التي ملأ بها الصحف. يصف صديقه تلك الكتابات، بأنها تفتحُ أفقاً جديداً. يقول الدكتور أحمد التيهاني: “عثمان الصيني هو الرمز الحقيقي لمعركة الحداثة في المملكة العربية السعودية، ولكنه الرمز الذي لم يقل ها أنذا، هو أحد رموز حداثة الثمانينات، الذين ظُلموا كثيراً، ولم يُرفع الظُلم عنهم حينما عاد التاريخ إلى رشده”. وقد صَدقَ التيهاني تماماً، لكنه يتألمُ، وحُقَ له، على أمرٍ يعرف التيهاني، أن الصيني لا يُعيرهُ اهتماماً! فتواضع عثمان، يجعله يلغي فكرة الفرد، من أجل فكرة المشروع والجماعة!
الصحافة ودهاليزها وجنونها
يحكي الصيني عن الاتصال الذي حوّل حياته، وكان من الأستاذ قينان الغامدي: “قال لي سنؤسس جريدة (يقصد جريدة الوطن)! بالنسبة لي كانت نقلة كبيرة، نقلة وظيفية ونقلة مكانية، ربما كان نوعاً من الجنون، كان ثمة تحدٍ كبير، كان هناك كثير من المراهنين على فشلها… حتى أنا حينما جئت إلى الصحيفة، كثير من الناس كان يقول كنت في الجامعة وجاي لجريدة!”. كانت كتابات الدكتور عثمان، عن الحداثة النافذة الأوسع لفهم معنى الصحافة، لذا دخلها وهو مؤمن برسالتها، وظلّ يراعي ذلك ويعيشه، في كل السنوات منذ أن كان أمين سر نادي الطائف الأدبي، إلى اليوم. في عام 2000 ذهب عثمان، مع أربعة من الصحافيين إلى أبها، كانت الخطة إكمال تأسيس جريدة (الوطن)، انتقل من عمله أستاذا جامعياً، إلى العمل في مطبخ التحرير… من وظيفة تستغرق سبع ساعات أسبوعياً إلى سبعين ساعة… من العمل الرتيب، إلى جنون الصحافة وحماستها. لا ينسى الصيني موقفاً رهيباً، وصلت إلى الجريدة مجموعة من الصور لمستشفى شهار بالطائف، صور تقشعر منها الأبدان، المستشفى المتخصص بعلاج الأمراض النفسية والعقلية. يُجمع في الصور المرضى عراةً، ويقوم الموظفون بتحميمهم بخرطوم الماء الذي يدفق عليهم المياه، كما لو كانوا حريقاً يسعى عامل إطفاء لإخماده! حمل عثمان الصور، وكون فريقاً لإجراء تحقيق صحافي استقصائي. بعد شهر ونصف من البحث، أرسل عثمان صحافياً للمستشفى متظاهراً بالمرض العقلي، بعد أسابيع ثبتت الممارسة الهمجية الواردة في الصور بما لا يدع مجالاً للشك. نُشر التحقيق في (الوطن)، ضجّت المؤسسات المعنية، شَكل الملك عبدالله، رحمه الله، وكان ولياً للعهد حينها، لجنة من ثلاثة وزراء، فعدّلت ممارسات وغيّرت أنظمة، وأعفت أعداداً من المسؤولين!
الجهات المسؤولة، بعد ضجة نشر التحقيق، حققت مع عثمان الصيني فبين لهم آلية العمل الصحافي الاستقصائي، وسلامة منهجيته بالأدلة، وصحة ما توصل إليه من نتائج. يقول الدكتور التيهاني: “النسبة العليا في توزيع صحيفة الوطن لم تكن سنة التأسيس، بل كانت في سنوات تولي الدكتور عثمان الصيني لرئاسة التحرير، فارتفع السقف إلى أعلاه، صارت الوطن وطناً، فضلاً عن أن الرأي في الوطن، وهو الذي جعل الوطن وطناً، هو صناعة هذا الرجل، الذي بدأ عمله في الوطن مشرفاً على التحرير”.
يؤمن الصيني، أن الصحافة الورقية منذ أواخر التسعينات، لا يمكن أن تراهن وسط منافسة القنوات الفضائية الإخبارية، على الأنماط الصحافية التقليدية، مثل الخبر والتحقيق ونحوه، وليس لها لتنجح وتتميز، مثل أن توسِع رقعة الاهتمام بالرأي، والمقالات، ورفع سقف الحرية لكتابها.
عمل الصيني نائباً لرئيس التحرير في (الوطن)، ما بين (1999-2005)، ثم صار رئيس التحرير المكلف في الفترة (2005-2007). وفي ساعة غموض، وجدنا الصيني يحزم حقائبه، ويتجه نحو محطةٍ أخرى، مستشاراً ورئيساً لتحرير المجلة العربية، الصادرة عن وزارة الإعلام، مطلع 2008، فحَول المجلة إلى مجلة تجمع بين تشويق الصحافة، ووقار المواد العلمية التي تقدم بقالب قشيب للقارئ العادي. وخلال سبع سنوات، أصدر الصيني عبر المجلة ٤٠٠ كتاب، يصعب أن تجد بينها كتاباً متوسط القيمة. كانت كُتباً عميقة الطرح، مشوقة في موضوعاته، حديثة في اهتماماتها.
اجتمع ثُلَةٌ من أعيان مكة، لتعويض رحيل جريدة (الندوة) المكية، التي تعثرت، فاندثرت في التسعينات، بينهم وزير الإعلام -حينها-، الدكتور عبدالعزيز خوجة، ورجل الأعمال الشيخ صالح كامل، وأسسوا جريدة جديدة اسمها (مكة)، وأوكلوا مهمة إطلاقها للصيني. في ثمانية أشهر من العمل، اختار الصيني فريقه وانتقى الشعار، ومنحها سلافة الفكر، وخلاصة المهنية، واضعًا بصمته الفنيّة والتحريرية. طوّر الانفوجرافيك، أو الرسوم المعلوماتية، حتى صارت أيقونة لمكة بني كل الصحف، وطوّر سياسة ASF أو صحافة البيانات. بعد كل هذا العمل، شعر الصيني بأنّ دوره انتهى، وأن دور غيره متابعة العمل في جريدة (مكة). مارس أبا حازم عادته الأثيرة، انسحب بهدوء ودون جلبة، وعاد إلى المجلة العربية، رئيسا لتحريرها مائة يوم تقريبًا، إلا أن خوجة وصالح كامل، أصرا عليه أن يتولى رئاسة تحرير (مكة)، فاستجاب الرجل الحيي، لرغبة وجيهين مكيين خلوقين، لدرجة تجعل رد طلبهما سلوك لا يمارسه رجل مثل عثمان الصيني. تولى رئاسة التحرير قبل صدور الجريدة بعشرين يوماً، واستمرّ فيها تسعة أشهر، هزّه الشوق لممارسة عادته الأثيرة في الانسحاب الهادئ، فكتب. في 19 نوفمبر 2014، رسالة الوداع، بعنوان: “تلويحة لمكة الصحيفة”، تخيلته كتب العنوان: “تلويحة لمكة” فاقشعر بدن الرجل المكيّ، وفزع لإضافة الصحيفة بعد مكة، إكراماً لأقدس البلدان، وغادر لرئاسة تحرير (الوطن)، وكأنه يردد: كم منزلٍ في الأرض يعشقه الفتى وحنينهُ دوماً لأول منزلِ.
قِيَم عثمان المهنية
سقف حرية التعبير، يزيد بالوعي حيثُ يكون الصيني مسؤولاً عن مطبوعة ما: (الوطن، مكة، المجلة العربية).
والرجل لا يُحسن تقديم عملٍ غير متقنٍ… حتى تظنه لا يجيد غيره. يمكنك أن تعمل مع الصيني لسنوات، بين أوراق الصحف، تلاحق الأخبار والعناوين، وتصنع الرأي، دون أن تضطره إلى استفراغ مخزونه الأدبي، لذا ستقف فاغراً فاك، وأنت تسمعه يحاضر عن الأدب والثقافة. كثيرٌ من الصحافيين الشباب الذين عملوا مع الصيني في الوطن، لم يعرفوا سيرته الثرية أكاديمياً وثقافياً. إنه تواضع الرجلُ، الذي يفيض منه بلا تكلف، فيوقع أناساً اقتربوا منه سنوات في حيرة، لأنهم لم يسمعوه يستعرض ثقافته يوماً!
لأبي حازم وجهة نظر، يقول فيها: “الأديب حينما يعمل في الصحافة عليه أن يخلع قبعة الأديب ويلبس قبعة الصحفي، عثمان عندما عمل في الوطن خلع قبعة الأكاديمي، وحذف حتى الدال، لأنني جئت هنا لأعمل صحافة، وليس لأعمل أكاديمياً”. الأستاذ محمد الأسمري، عضو لجنة التراث واللهجات بجامعة الملك سعود، دعى الصيني إلى عضويّة اللجنة، فتواضع عثمان وردّ عليه قائلاً: “ترى هي كلمتين… ما تنفعكم كثير، ولا أريد أن أكون ممن ينطبق عليهم قول (المتنبي): بهَا نَبَطيٌّ مِنَ أهْلِ السّوَادِ يُدَرِّسُ أنْسَابَ أهْلِ الفَلا».
في رحلةٍ خارجية شرفت فيها بمرافقة الملك سلمان يوم كان ولياً للعهد، وصلنا فيها إلى الصين، فتفاجأنا بأن الدكتور عثمان، يتحدث الصينية بطلاقة. ولعل في هذا باب كبير للتأمّل، فسيرة بلادنا في الحقيقة، تكتبها مجموع السِّير المتميزة، التي تتعانق لترسم بهاء الصورة.
هذا الصيني الذي ظلّ محتفظاً بلغاته كلها، وصلته بالصينية لم تنقطع، لم يشعر ولو للحظة أنّه غريب عن ثقافة السعودية؛ لا بمكة والطائف وحدها، بل في كل الجزيرة العربية، التي تحوّل إلى خبيرٍ فيها؛ ودليل لها، يفك طلاسمها، ويشرح معالمها. بل إنه لأَعلمُ بقبائلها من أبناء القبيلة أنفسهم، يعرف أرومتها ويحفظ جرثومتها، يعيّن مواطنها ومراعيها ورقصاتها. حكي لي قينان الغامدي؛ أنه اتصل يوماً على عثمان الصيني، يسأله عن فرع في قبيلة غامد، فأخبره بالعدد والأسماء، وسأله لماذا تسأل عنها، فقال له: تراهنتُ أنا والشاعر الدكتور سعد عطية الغامدي، ولن نطمئن لمرجع مثلك!
قال لي صديق، لو أنّ مثل الدكتور عثمان الصيني، بلغ نجاحه هذا؛ في بلدٍ آخر، لصار مصدراً للاحتفاء، ودليلاً على التنوّع والتسامح وقبول الآخر، وجعل بطلاً لرواية وقصةً لفيلم وسرديّة لرؤى. أخبرته أننا تعوّدنا أن لا نسوّق خصالنا الطيبة، لأننا نشأنا على أنّ غير هذا القبول والتعايش هو “المنقود”. وأن الدكتور عثمان الصيني، هو واحد من آلاف في المجتمع السعودي، يأخذون دورهم في صناعة الرأي، وتشكيل الوعي، ويأخذ الدنيا غلاباً، وما هو فيه الآن، هو كسبه وحظه من الاجتهاد. بيد أنّي لما تأملت، سيرة الدكتور الصيني، ومعها سيرة مئات، انمحت أصولهم وأعراقهم أمام عظمة ما قدموه، تعززت لديّ الثقة بهذا الوطن، الذي ما كان المختلف فيه منبوذًا لاختلافه، أو غربته، أو هجرته! بل، كم من المئات في هذا البلد العظيم، احتضنهم مشروع الملك المؤسس العظيم عبدالعزيز، رحمه الله؟ مؤرخين ومثقفين ومفكرين ورجال دولة، ساهموا في رحلة البناء الأولى.
بمجرّد المرور على الأسماء أدركت أننا لم نوثق للسعودية بما فيه الكفاية، ففي ثنايا هذه القصص والحكايات، رواية لوطن يسع كل الاختلافات، اختار مُؤسسه مُبكراً، أنّ يجعله مرجعًا للإنسانية جمعاء، موئلاً للعرب، تهوي إليه أفئدة المسلمين، يعجن خلاصة ثقافتهم وإدراكهم بطين الجزيرة هذا، ويقدمه في إنسانها للناس، دون ضوضاء أو ادعاء، فيبقى ويمكث في الأرض، فهذه البلاد تختص بما ينفع الناس. فهل سنعيد توثيق سيرة بلادنا، بوعي جديد، يتناسب مع عبقريتها، وقدرتها على الإدهاش؟! وأنت أيها السعودي الكبير؟ تلك رحلة عثمان الرحبة، رحلة الألم والرضا، التي لا يزال العطاء يسوقنا إلى بحرها الممتد، وأفقها الرحب، لرجلٍ أوفى النذر لجَّدِه، فلم يترك على طريق الحياة والصحافة، صحافياً، إلا وأقله راكباً بعد أن كان ماشياً، وفي مركبته تلاميذ يعدون بالمئات. إيه أبا حازم: هل ستأخذ بأيدينا وتكمل ملفات المشاريع المفتوحة؛ أطالس اللهجات، وحكايات القبائل، والتأريخ للموروث بما يرضيك ويرضي التاريخ؟