حين تقف على شباك شراء التذاكر في قاعات السينما، ترى تباين اختيارات وأذواق الناس، بعضهم يهوى أفلام الرعب، وآخر يفضل الحركة والإثارة، والبعض لا يستمتع إلا حين يعثر على فيلم تاريخي متشعب. ثمة من لا يحب أفلام الإثارة، وينفر من أفلام الرعب، لكن، يكاد الجميع يتفقون على محبتهم للأفلام الكوميدية. لماذا؟!
لأنها ترسم الضحكة، على الوجوه. نعم الضحك… إنها السلعة الأغلى في العالم.
من أصعب المهام أن تملك القدرة على رسم ضحكة، من خلال التلفزيون أو السينما أو المسرح، ولذلك فإن الفنان الكوميدي، ليس الأشهر فقط، وإنما الأكثر أجراً، لأن الإنسان قد يجامل ضاحكاً في وليمة، ولكن في السينما أو المسرح لن تجد من يضحك للمجاملة، إنه يصرف من ماله، لأجل شراء ضحكة، باذخة، ماتعة.
أكثر الأفلام حضوراً في السينما، الحب، والضحك، لأنها من أساسيات السعادة في الحياة، فمن دون حب وقدرة على الابتسامة تصبح الحياة جامدة خاملة، ويكون الإنسان كآلة صماء بكماء، بلا مشاعر ولا أمل.
ولكن ما تعريف الضحكة؟! بالعودة لمن كتب عنها من المنظرين، يمكن اعتبارها، إدراك حالة من التناقض، تجعل الصورة المدركة ذهنياً، موضعاً يدفع الإنسان نحو الضحك. فالواقعة الدافعة للضحك، تكون ضمن إدراكات الإنسان، وأمثلته، لذلك تعتبر النكتة في كل مجتمع أحد عوامل شرح خيال الناس، وبيان اهتماماتهم، ومستوى وعيهم، ودرجة سخريتهم.
النكتة تشرح الفرز الاجتماعي الشعبي بين المناطق، والقبائل، والمدن، بل وحتى الطبقات التي يرسمها المجتمع، حتى وإن نبعت من تصورات رجعية.
كثير من المفكرين والفلاسفة، شدهم موضوع الضحك للبحث، مثل الفيلسوف الألماني، أرتور شبنهاور (ت 1860)، والفيلسوف الدنماركي، سورين كيركجارد (ت 1855)، ولكن الذي اهتم بالضحك، بشكل مفصل، هو الفيلسوف الفرنسي، هنري برغسون (ت1941)، في كتابه «الضحك»، الذي يقول فيه:«إن ضحكتنا هي ضحكة المجموعة، ربما قد حصل لك في عربة قطار، أن تسمع مسافرين يقصون على بعضهم قصصاً يفترض أن تكون هزلية في نظرهم، لأنهم يضحكون منها من ملء قلبهم، ستضحكون مثلهم لو كنتم من مجتمعهم، ولكن بما أنكم لستم كذلك، فإنكم لا تجدون أي رغبة في الضحك. إن الضحك، مهما بدا صريحاً بالافتراض، فإنه يخفي فكرة تفاهمية، وأكاد أقول تواطؤية، مع الضاحكين الآخرين، الحقيقيين أو الخياليين. الكثير من الآثار المضحكة، ليست قابلة للترجمة من لغة إلى أخرى».
عندما تتصفح اليوتيوب لمتابعة مسرحيات وأفلام كوميدية، تجد مشاهداتها بعشرات الملايين، فالناس تبحث عن النكتة الذكية، والفنان الكوميدي، شرطه أن يكون عبقرياً!
تشارلي شابلن، لم يكن مهرجاً، بل كان يرسم لوحات خارقة، وهكذا كوميديو هوليود، وقل مثله عن العرب، حين تستمع لحوارات مع فؤاد المهندس، أو عادل إمام، أو عبدالحسين عبدالرضا، تستوقفك الذهنية الحاضرة، وسرعة البديهة، وذكاء حاد، من خلاله يستطيعون صناعة النكتة الخالدة.
في الكتاب يفرق برغسون، بين الهزل والضحك، الصورة الهزلية، أن تضحك من شخص يعطس بطريقة لافتة، من كلب محلوق نصف شعره، لكن النكتة ذات أبعاد وحمولة متعددة المشارب، فالنكتة بتناقضها الذي يشبه ضرب حجرين لإشعال النار… التناقض هو مصدر النكتة الأقوى، والمبالغة هي وقود النكتة، فلو تطلبنا المنطق في النكتة، لما ضحك منها أحد.
بالنهاية، فإن الضحك سلعة غالية، شغفُ الناس من أجلها من المشتركات الإنسانية، والضحك أكثر أناقة من الهزل، فمن السهل أن يغير الفنان في تعابير وجهه، أو أن يمارس حركات تصنف ضمن الهزل أو التهريج، وتخرج هذا العمل، من جمال دائرة الضحك الذكي، ليدخل به، ربما، إلى دائرة الاستخفاف بالمتلقي، وهو أمر ثمنه باهظ، فنياً وإنسانياً.
عبدالحسين عبدالرضا، لم يغير شكله، ولا فعل حركات بوجهه أو زيه أو شعره، بل ظهر للناس عادة، بغترته وعقاله، ودخل المسرح بشخصية، مثل شخصيته في البيت، لكنه بعبقريته صنع نكتة ترتكز على التناقض، فكانت النتيجة أن يهتز المسرح مجلجلاً بضحكات الجمهور. هذا الجمهور الذي يسيطر على الجزء الأكبر من تفكير عبدالحسين، ولأنه يحترم من يقدرون فنه، اجتهد في صناعة النكتة الذكية، وبذل الجهد لخلقها بذكاء، فحصل على النتيجة الأعظم، ضحكات صادقة من جمهور ترتفع مكانة عبدالحسين عنده، كلما اجتهد في صناعة النكات الذكية. من الصعب جداً، أن يستطيع إنسان إضحاك الناس، ولكنه يستطيع جعلهم يذرفون الدموع بسهولة، تلك هي القصة ببساطة، وهي السر الكامن وراء كون الضحك، سلعة غالية جداً.
جميع الحقوق محفوظة 2019