تعبّر الإجراءات الاقتصادية التي تقوم بها دول الخليج عن تحوّلات المرحلة، وتغيّر الأنماط الاقتصادية، وبالتالي ضرورة تغيير النهج الاستهلاكي المجتمعي، والطرق الرعوية الحكومية، لإنتاج عنصر ثالث يكون مخرجاً للمجتمع والدولة من الأزمات الاقتصادية. لا شك أن تعثّر النفط كان له دوره الكبير في إجراءات التقشف، ستصبر المجتمعات كما صبرت من قبل.
نتذكّر القرارات التي اتخذت بعد حرب الخليج عام 1990، سرعان ما فرجت المرحلة بعدها بعقدٍ أو أقل، الإيجابية أن المجتمع نفسه بدأ يراجع سلوكه المسرف، وقد تم تداول عشرات المقاطع الصوتية والمرئية التي تنتقد الإسراف في المآكل، والمشارب، والمراكب، والمناسبات في الأعراس وغيرها. لابد من انتهاج أسلوبٍ آخر غير الذي تم اعتياده على مدى عقود، وهو موروث من أدبيات الطفرة، والاغتباط بالمال، على طريقة من باغتته النعمة فجأة، فراح يتعامل معها باعتبارها أمراً طبيعياً، ساكناً أبدياً.
يمكن أن يكون للقادة السياسيين دورهم مع المؤسسات الأخرى في تبيان عواقب البذخ المستديم، والاعتماد العقائدي على الحكومة في كل صغيرةٍ وكبيرة، وكذلك على الدول أن تتجاوز الاعتماد الأبدي على النفط.
المجتمعات مثل الأفراد تتربى على أمورٍ لا تستطيع مغادرتها أو تجاوزها. لنجد نماذج أخرى لمجتمعاتٍ تنازلت عن الرفاه قسراً لمواجهة حالات ضعف اقتصادي إذ تعتمد إجراءات التقشف على المستويين الرسمي والشعبي، وهذا مهم لو حدث في دول الخليج، لأنها بذلك تعوّد المجتمع على ترك إدمان البذخ والدخول ضمن المعقول في أسلوب الحياة والتسوّق والاستهلاك الكبير الذي تشهد عليه الأرقام، والأرقام لا تكذب، فإن المجتمعات الخليجية بالغت طوال العقود الماضية في التزيّد بما أهو أكثر من الطبيعي في كل مناحي الحياة اليومية، ومنها طرق الشراء، وأنماط التبضع، وإدمان الاستهلاك، ما أدخلها في شراء ما لا تحتاج، وما يزيد على استخداماتها.
هناك حالة من الاندماج مع أسلوب الاستهلاك الذي لابد أن ينتهي أو يخف، لأن المعضلة بقدر ما هي مادية، فإنها أيضاً نفسية، عالم النفس، أريك فروم، في كتابه (تملّك أم كينونة؟)، يعيد النزعة الاستهلاكية إلى حال من «الاستدماج»، وهي نزعة ضمن تكوين الإنسان منذ طفولته، ذلك أن: «الطفل في مرحلةٍ من مراحل نموه يميل إلى أن يضع في فمه كل الأشياء التي يرغب فيها، وتلك طريقته في التملك». فهو يعتبر عملية الاستدماج هذه، أولى نزعات التملك المصاحبة للإنسان منذ البدء، لكن تلك النزعة لم تصل إلى حال الاستهلاك الذي وصل إليه الإنسان مع العصر الصناعي، وانتشار الثقافة الرأسمالية في العالم، فحال الاستهلاك يمكن وصفه – بحسب ما يشير فروم – بأنه التملّك المرَضي.
المسلسلات الخليجية، تحاول أن تحاكي الواقع، وإن بالغت فيه، وهي تضجّ بالقصور، والسيارات الفارهة، والألبسة الفخمة، تلك كانت نتاج طفرة محددة في زمنٍ مضى، غير أن استصحابها لكل الأزمان والعصور فيه جور وحيف، لأنها لا تعبر عن أغلبية المجتمع الخليجي الذي تغلب عليه الطبقة الوسطى، إذ يستحيل أن يكون هناك مسلسل كامل كله قصور بين أغنياء يتزاورون، هذا الرسم الخيالي للأمور يشرح فعلاً الفضاء الاستهلاكي البصري، والرغبة الذاتية النفسية الدفينة بأن نشرح المجتمعات على أنها فاحشة الثراء.
فرصة كبرى هذه، أن نغيّر من أساليبنا في التعامل مع ما نملك، وأن نتجاوز الأبوية الحكومية، ومن ثم تجاوز الدولة والمجتمع لإدمان النفط. أحد الاقتصاديين الفضلاء قال إن الاعتماد على النفط لن ينقطع، وأن من المستحيل إيجاد بدائل للنفط في السعودية والخليج. وأرى هذا كلام يائساً. لكن الله تعالى يقول: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).