الكتابة عن تركي الدخيل #TurkiAldakhil غزيرة، لا تحدها ضفاف، لأن الرجل مرتحل دائمًا بين أوراقه الصحافية، وأبوابه المهنية، من منصب إلى منصب، ومن مهمة إلى أخرى، ومن افتتاحية إلى ضيف. غزيرة فعلًا، ترقى إلى أناقته بجمال الكلمة التي تلاحقه.
مع شمس الثاني من يوليو 1973 في العاصمة الرياض، أشرقت الحياة في عيني تركي بن عبدالله الدخيل.
كان هوس الصحافة قد لازم الفتى السعودي منذ السادسة عشرة من عمره، فوقف على أبواب الصحف الموصدة أمام الطموح الكبير، ينتظر بصبر المحارب. فكلما انصرم يوم في رحلة البحث، يُوقد فتيل الحماس لأجل يوم جديد على طريق الأمل.
عند أول باب أعطى الفرصة، تمسك بحلمه، وحسم كل الأشياء في يومياته الصغيرة، لتكون الصحافة عمله وبيته ورغيفه، فبدأ معها الطالب الحذق والمريد المطيع، حتى غدا إلى سنوات التقدم والإنجاز.
أهم من شهادة
عندما توثقت علاقته بالصحف في العاصمة الرياض، كان طالبًا في جامعة الإمام محمد بن سعود، ولأن اسمه الصحافي بدأ ينمو في المشهد المحلي، احتفل به رئيس قسم الإعلام في الكلية، وأوكل إليه معظم مهام إصدار صحيفة الجامعة، ومنحه مكتبًا وهو في سنته الجامعية الأولى، بمحاذاة مكاتب حاملي الماجستير من محاضري الكلية، نظير عمله المهني في الصحيفة الجامعية الأسبوعية والنشرات الدورية.
انتقل إلى قسم أصول الدين وهو لا يزال يعمل في الصحافة، وبعد أن أتم العام الثالث، تفرغ للصحافة، الأكثر بريقًا ودخلًا لمن في عمره، ليترك الجامعة، من أجل صحيفتي “الشرق الأوسط”، و”المسلمون”، والتعاون مع مجلة “المجلة”.
بات اسم الصحافي اللامع أهم من شهادة الجامعة. يقول: “تنقلت بين عدة صحف ومحطات، ولم يسألني أحد عن شهادتي، ربما لأنهم كانوا يقدرون مهنيتي أكثر”. كان الإصرار أكبر من علامات التعليم وأوثق من الوثيقة العلمية؛ فعندما حضر الشخص العَلَم غابت الأوراق التعريفية.
استقبله الجمهور على نطاق أوسع عبر برنامج “إضاءات” في قناة “العربية” منذ عام 2004، وكان البرنامج قبلها بعامين إذاعيًا، يحقق تفوقًا باهرًا في السعودية، فكانت الشاشة منطاد الشهرة… بل طائرتها النفاثة.
تحت أزيز الرصاص
كانت الأعمال في الصحف المكتوبة هي العلامة الأولى في المسيرة. فقد قدم الدخيل ثلاثة أغلفة لمجلة “المجلة” عن حرب الانفصال في اليمن في عام 1994، كما غطى لصحيفة “الحياة” اللندنية الحرب الدائرة في أفغانستان بين طالبان وأحمد شاه مسعود. قابل الطالبانيين أولًا، ثم قطع خط النار في أثناء أزيز الرصاص وأصوات القنابل، ليصل إلى جبال بنجشير، ويلتقي أحمد شاه مسعود قبل أن يغتاله تنظيم “القاعدة” بثلاث سنوات.
محليًا، لم تكن لتجد مناسبة يمكن أن يظهر منها تصريح لمسؤول سعودي إلا كان هناك تركي الدخيل، ضخم الجثة، بحمل ناهز ١٨٥كغم، الثقل الذي يتجاوزه حمل المعرفة، وخفة الحسّ، ونباهة الحاضر دومًا.
بدأت تجربته العملية منذ عام 1989 مع الصحافة، واحترف المهنة بعد خمس سنوات في الكتابة وإدارة المواقع الإعلامية والثقافية ذات الانتشار الواسع محليًا ودوليًا. وتُعد هذه أول خطوة في رحلته نحو قراءة المستقبل وبحث آفاقه، وكذلك ستكون عنوان تجربته الأهم في الاستشراف، ونشر التنوير في معارك نظيفة يديرها بالكلمة الواثقة وبالأسئلة النابهة. وراح يشارك في تأسيس كبريات المنصات الإعلامية العربية، ومراكز البحث والنشر والتدريب التي أضافت إلى المشهد العربي الكثير من الوعي بالدراسات المتخصصة والبحوث المعمقة والمعارف الواسعة.
سجلت مسيرته المهنية خارج الصحافة الورقية بواكير أنشطته في السعودية في عام 1997، بعمله مراسلًا سياسيًا لإذاعة “مونتي كارلو”، ثم في عام 1999 مراسلًا سياسيًا بإذاعة “أم بي سي أف أم”. كل ذلك وهو يحافظ على عمله مراسلًا سياسيًا لصحيفة “الحياة”.
شغف مجنون
يقول تركي الدخيل: “كنت أقضي شهرين، أداوم سبعة أيام في الأسبوع برغبتي من دون إجبار ولا مقابل. أذكر أني أصلي الجمعة في الجامع المجاور لمكتبة جرير، حيث مكاتب الحياة، ثم أمكث في مكتبي أفتش عن خبر، أو أتواصل مع مصدر، ولا أخرج حتى تطبع الصحيفة بين 10 و 11 ليلًا. كان شغفًا مجنونًا، لكني أجزم أنه كان مصدرًا لبنائي صحافيًا وساهم في تشكيلي”.
لتركي الدخيل قلم تجاوز عمره ثلاثين عامًا، بعد مرحلة تعاون جادة، ثم بدأ حبره الذهبي بالتدفق مع طليعة الإعلام المحلي والدولي، مراسلًا ومحررًا في صحف عديدة مثل “الشرق الأوسط”، “المسلمون”، “المجلة”، “الرياض”، “عكاظ”، “عالم الرياضة”، مجلة “الجيل”، إلى أن تفرغ في عام 1994 للصحافة في “الشرق الأوسط” ثم “الحياة” لسبع سنوات.
انطلاقًا من همه الثقافي وريادته المبكرة بين مجايليه في قراءة الشأن العربي، كتب المقال الرصين والفاحص للواقع والمستشرف للغد، وصارت كلمته الشجاعة تتصدر أوساط النخب، وتُشكل دوائر النقاش ومجالس الحوار الجاد؛ إذ دأب على حراك كلمته منذ عام 2002 عبر زاوية “من ثقب الباب” في صحيفة “الاقتصادية”، وصحيفتي “الوقت” و”الوطن” البحرينيتين، وصحيفة “الاتحاد” في الإمارات، وصحيفة “الجريدة” من الكويت.
في صحيفة “الوطن” السعودية، كتب زاوية يومية طيلة 13 سنة عنوانها “قال غفر الله له”، وذلك بداية من عام 2005، ثم كتب زاوية “السطر الأخير” في “الرياض”، فزاوية “حبر القلب” في “عكاظ”.
حضن الثقافة وجسدها الإلكتروني
يُعد، تركي الدخيل، من الرواد المؤسسين للمواقع الإلكترونية المعنية بنشر الثقافة وقيم الحوار والكتابة الجديدة، عندما أطلق موقع “جسد الثقافة” على شبكة الإنترنت حديثة الظهور في المملكة والخليج؛ ويكون بذلك أول مسعى لاحتضان العملية الإبداعية؛ ليخلق أطيافًا من الأصوات الشابة التي تُدين له حتى اليوم بتلك المساحة الحرة والمتسعة للفن والإبداع، وقد برزت من هذا الموقع كتابات حديثة ونماذج متقدمة في القصة والنقد والتصوير الفوتوغرافي والفنون المتنوعة، وصار مرجعًا مهمًا لفترة أنجبت الكثير من التجارب اللافتة عبر ذلك الموقع، بفضل حرص مؤسِسِه تركي الدخيل على الإضافات الخلاقة داخل المجتمع.
يقول الباحث العراقي الدكتور رشيد الخيون: “لم يدخل تركي الدخيل إلى عالم النجومية إلا بعد العمل في الصحافة مراسلًا وصاحب تحقيقات، ركب الأهوال من أجلها، وعبر برنامج ’إضاءات‘ المميز عدة سنوات، كان صاحب مبادرة فيه، في الأسلوب والاختيار وتقيم الأفكار، ما جعل آخرين يقلدونه. استضاف فيه المئات وفي مختلف المجالات، من رجل الدين إلى الفنان والشاعر والكاتب. قدم عبر الإذاعة برنامج ’في خاطري شيء‘ وغيره. كان وجوده الإعلامي، كصاحب برنامج أو إدارة، إضافة مهمة في عالم الإعلام العربي، ركز فيها على الانفتاح والتسامح والتجديد، ما استدعى العداء الشرس ضده، لكن ذلك لم يزده إلا قوة وإصرارًا، ليشكل ظاهرة إيجابية لمن يطلب التجديد والتقدم عنوانها تركي الدخيل”.
الهجرة إلى بريق الشاشة
شهد عام 2002 النقلة الكبرى في عمل الدخيل عندما التحق بأهم تجربة تلفزيونية عربية، حيث انتقل إلى العمل في محطة “أم بي سي”، ثم قناة “العربية”، التي ساهم بشكل مباشر في تأسيسها، كما شارك في إنشاء موقع “إيلاف” الإلكتروني الذي تجاوز الكثير من التجارب، وأحدث تحولًا مختلفًا في نشر الخبر والحدث وبقالب متطور. وكذلك شارك في تأسيس موقع “العربية.نت” وأشرف عليه حتى عام 2007.
ولأنه الخبير بالمرحلة وبمسرح المجتمع العربي ككل، ولقدرته على قيادة الاختلاف من أقصى الشطط إلى صواب الرأي؛ فقد قاد الوجهة الخليجية تحديدًا في الإعلام إلى مناطق أكثر عمقًا واتقادًا بالأسئلة، وذلك حينما أطلق برنامجه الأكثر انتشارًا “إضاءات” في عام 2002 إذاعيًا وفي عام 2004 تلفزيونيًا في قناة “العربية”. واستضاف من خلاله كبار مثقفي ومفكري وأدباء الوطن العربي، وشرح فيه المواقف وقاس الحدود بين الفكرة وبين متلقيها؛ فقرب المعنى للجمهور، وبسط وجهات النظر للضيوف، ليكون برنامج تركي الدخيل الأوفر عمرًا وقيمة، بمواضيعه وشخصياته وحضوره مذيعًا ومحاورًا وإنسانًا.
سباق التنوير والنشر
لم يقف ركضه التنويري عند هذا الحد. فقد ساند هذا الجهد الإعلامي الحريص نشاطه في البحث والنشر، حيث أسس مركز “المسبار” للدراسات والبحوث، ليصبح رافدًا مهمًا لأعماله ولأنشطته المختلفة الساعية إلى الحقيقة وبناء المعرفة المستنيرة، وقد أصدر “المسبار” منذ انطلاقته العملية في عام 2007، حتى يناير 2019، أكثر من 170 كتابًا، قليلًا ما طرقت موضوعاتها المكتبة العربية، تتعلق بالإسلام الحزبي السني والشيعي، واختلافاته من منطقة لأخرى، والإسلام في مناطق الأقليات وغيرها. وكل كتاب يتناول من 8 إلى 14 بحثًا شبه محكم.
يسكن تركي الدخيل الشغف من دون انطفاء، فأسس دار “مدارك” للنشر التي تبوّأت، خلال سنوات قليلة مكانة مرموقة بين دور النشر العربية، وتقود الإصدارات المهمة للمكتبة العربية، كما تعمل الدار على استقطاب أهم الكُتّاب العرب، وبمختلف إنتاجاتهم، مع اهتمام بالغ بالكتّاب الشباب من الجنسين، إضافة إلى إنشائه مركز “دربة” للتدريب في دبي.
هذا الجانب في البحث والنشر لم يكن فاعلًا، لولا إدراك صاحبه لمتطلبات الوقت والانفراد بشأن له قدره في الأوساط العُليا؛ سواء من حيث النخب أو من حيث المؤسسات الحكومية وما تحتاجه من دراسات دقيقة تبني عليه قراراتها، وكان سعيه ملتزمًا بالمنهج البحثي القادر على تنشيط الأدوار الخادمة للتطوير والتقدم؛ لذلك أتت تلك المؤسسات لتساند مبادراته في تقديم المشورات وتساهم في تنمية المجتمع السعودي والخليجي والعربي، معززة منهجه الدائم.
انعكس ذلك كله على طرحه واشتغالاته، وأكسبه أن يكون مستشارًا كبيرًا لعدد من المؤسسات الخليجية والدولية، أو عضوًا في مجالسها وأماناتها، مثل:
– عضو مجلس أمناء مكتبة الملك فهد الوطنية في الرياض
– عضو مجلس أمناء المعهد الدولي للتسامح في دبي
– عضو اللجنة العليا لجائزة الشيخ زايد للكتاب في أبوظبي
سنوات الإدارة
في يناير 2015، عين مديرًا عامًا لقناتي “العربية” و”الحدث” ليتوج بذلك خبرات الرجل المتمرس في الصحافة والإعلام، ولتبدأ هاتان القناتان في تطلعات جديدة ومواكبة حاسمة مع كبريات القضايا، وفي انتماء صادق للوطن ولمواقفه المصيرية ورسالته العليا، كما كان ملاحظًا الجانب الثقافي الذي أخذ يتمظهر في عدد من البرامج، فكانت لإدارته أثر العارف والضليع بنقل قناة إخبارية إلى حدود أبعد وأكثر حضورًا في الأوساط. إداريًا، فتح الآفاق لرؤساء الأقسام بتوزيع الصلاحيات عليهم، وكان يتابع عملهم كله، لكنه لا يتدخل في كل صغيرة وكبيرة، إلا إذا لزم الأمر. ولأنه أحب السبق في الصحافة الإلكترونية والإعلام الحديث، استشعر الموجة العالمية عندما بدأت تنحسر عن التلفزيون باتجاه الأجهزة الذكية، فأسس قسمًا فاعلًا لـ “السوشال ميديا”، حقق نجاحات خيالية بالمقارنة مع المنافسين، في عدد المتابعين، ونسب المشاهدات. كما كانت للقاءاته بعدد كبير من القادة العرب والأجانب الإضافة المهمة لذاكرة قناة “العربية”، ولدورها في قراءة المشهد، من الشارع وحتى هرم الدولة.
عن ذلك، يقول الصحافي السعودي محمد التونسي: “ثلاثة عرفتها في تركي الدخيل وعرفته بها: طموحه عاقل، بارع في تنمية قدراته وتطويرها، ذكيّ في اقتناص الفرص واستثمارها. متصالح مع نفسه، متسامح، لا يؤذي ولا يرد بالأذى. كريم مع الكل بإنسانيته ومجهوده وماله”.
ألقاب عديدة
كان لهذا الرجل العَلَم ذي الشخصية النفيسة أن تتحقق التسميات التشريفية، والتي تُصادق على عطائه وإخلاصه، لنصاعة الرأي، وثبات الكلمة، وتنمية المجتمع المدني، وتوسيع مساحة الحوار والتثقيف بالحقوق والمساواة، ولقدراته في التأثير والتغيير، وإلهام الآخرين وتحفيزهم نحو الإصلاح والوعي الفاعل، فأتى أكثر من تصويت ليمنحه الألقاب، مثل:
– أفضل مذيع سعودي، جريدة “الرياض”، 2009.
– سيد الحوار، مجلة “روتانا”، 2007.
– أحد أقوى 100 شخصية عربية مؤثرة، مجلة “آريبيان بزنس”، في أعوام 2007، 2010، 2011، 2012.
– جائزة مؤسسة أميركا للإعلام الخارجي (AAM)، واشنطن، 2014.
ـ جائزة رواد التواصل الاجتماعي – فئة الإعلام، في قمة رواد التواصل الاجتماعي، دبي، 2015.
– جائزة تغيير المفاهيم والتصورات من منظمة اليونسكو وست مؤسسات عالمية، 2016. وكُرِّم ضمن أبطال “الحملة العالمية ضد التطرّف العنيف”.
– أحد أهم 100 شخصية عربية شهيرة، “فوربس”، 2017.
حكايات إنسانية مخفية
لجانب الدخيل الإنساني أرحب ما في الكلمات من معانٍ، وأكثر ما في الوقت من تقدير وعرفان؛ فقد كانت مواقفه مع الآخرين ذات سمة بليغة الرقي، وما يعطيه لا يسجله غير الناس الذين حفظوا له المعروف، فدعمه للكفاءات مهما صغرت تجربتها كان أول اهتمامه؛ إيمانًا منه بالرهان على الطموح والنجاح، فحقق السبق وأكد المكسب. الشواهد على إحسانه كثيرة، ولا يمكن أن يحيط هذا التعريف بقصص وقوفه إلى جانب الإنسان وحقه، إلى جانب الإنصاف وإخراج العمل من يد المحترف الحريص إلى الشارع المعني. رصيد القلب أكثر مما يتحمله القلب، لكنه المضاعف في حبه للناس، والمتواصل في ذاكرة كل مكان وكل شخص صافحه.
على ضفة أخرى من شخص جميل المعشر، كان يخطف التندر من أفواه أصحابه، فيسخر من سمنته التي غادرت للنسيان. يأتي هذا من التصالح الذي يعيشه فعلًا؛ إذ كتب مقالات ساخرة عندما فقد 90 كيلًا، والتقط نصيحة كاتب هذه السطور بتحويلها إلى كتاب، اسمه “ذكريات سمين سابق”، وهو في أوج نجومية برنامج “إضاءات”، وحينما كانت الإحصاءات تجعله لسنوات البرنامج الحواري الأول في القنوات الإخبارية. يومها، قال المفكر الكويتي الراحل أحمد الربعي، واصفًا الدخيل: “الرجل الذي خف وزنه وغلا ثمنه”. وشهد محمد العبيكان، مدير مكتبة العبيكان حينها، أن الدخيل وقع على 5 آلاف نسخة في حفل توقيع الكتاب، وبلغت عدد نسخ الكتاب المباعة نحو 400 ألف نسخة.
أبّهة الأناقة
تركي رؤوفٌ داخل وسطه وخارجه، كانت لليد الحانية كلمة، وللفقد سيف النصر. هذا ما يُؤكده بذاكرة تُلازمه عن أمّه – رحمة الله عليها – وهو يقول: “مرضت والدتي، رحمها الله، وكان في نفسها شيء من عدم حصولي على شهادة جامعية، فذهبت للجامعة وطلبت إفادة بما اجتزت من ساعات، وهي تبلغ نحو ثلاث سنوات. ثم توجهت إلى جامعة المقاصد في لبنان، لأنها تدرس الشريعة ويمكن أن أستفيد من التخصص المتشابه، غير أنهم وجدوا أني لم أدرس لغة إنكليزية، ولا منطقا، ولا فلسفة، فلم يقبلوا من ساعاتي خلال ثلاث سنوات إلا ما يعادل سنتين فقط. كنت أسافر نحو ثلاثة أيام أسبوعيًا، بعد أن أصور برنامجي الأسبوعي، متحججًا عند أسرتي بمتابعة تأسيس وإدارة دار “مدارك” للنشر التي بدأت آنذاك في بيروت وأقدّم البحوث، فقد أردت أن أُدخل على قلب والدتي الفرح بتحقيق رغبتها ولو بعد حين. والمؤسف أنها رحلت قبل الحصول على الشهادة بأشهر، من دون أن تعلم بالفكرة أصلًا! بعدها فورًا، قدمت على الماجستير، وحصلت على شهادتها مع مرتبة الشرف بعد عامين ونصف في يناير 2011″.
تبقى للأصدقاء شهادة القلب عن تركي الدخيل، فيرى الكاتب السعودي عبدالله بجاد العتيبي فيه السبّاق إلى “نفع الغير بكل طريقة وأي سبيل”، وأنه “العنيد في التنوير، والقادر إلى نجاح يتلوه نجاح”. ويختم بوصف صداقتهما: “الإنسان في الحياة يختار أصدقاءه، ليس لأنهم كاملون، لكن لأنه يستطيع تحمل عيوبهم، ويتصالح معها، وهم يختارونه للسبب ذاته، ومنذ عرفت تركي الدخيل قبل خمسة عشر عامًا أو أكثر، وهو الصديق الصدوق”.
يصفه الشاعر فهد عافت بـ”كلمة واحدة: الأناقة… أناقة اللغة والتعبير، أناقة النّفْس المتعوب على تهذيبها بصبر ووعي”. أنه يمنح “المكان الذي نكون فيه ’أُبّهة‘ نقيّة، مُثقلة بخفة الظل ومضيئة بالنباهة ومؤطرة بالالتزام، ومع ذلك وبسببه هي ’أُبّهة‘ مُفرغة من الغرور والتعالي”. ويؤكد عافت أن تلك الهيبة “من أثر التدفقات الإنسانية المُشعة… هيبة وسيمة!”.
موعد مع القدر
يرى فيه الدكتور محمد عبد المطلب الهوني، المفكر والسياسي الليبي، أنه شخص يحدث الفرق، ويختزل المدن في شخصه. يضيف: “ليست المقتنيات الصماء التي تعود بها من مدينة لتضعها على منضدة خرساء في منزلك، وليست نكهة طبق تناولته في أحد مطاعمها، فتلاشى قبل أن تدفع فاتورة الحساب، وليست المتاحف التي ألقيت على جدرانها المكتظة باللوحات نظرة سريعة، ممنيًا نفسك بالرجوع المستحيل لتفحصها؛ بل هو الإنسان الذى ضرب لك القدر موعدًا معه في تلك المدينة، فأصبحت لا تراها إلا من خلال قسمات وجهه، وتحن إليها في تدفق مشاعر التحنان إليه. تلك المدينة هي مدينة أبو ظبي، وذلك الإنسان هو تركى الدخيل”.
يذهب مشاري الذايدي إلى وصفه بأنه “أفضل جسر يربط ضفة الصحافة بشاطئ الدبلوماسية. فهو منذ كان شابًا فتيًا في ميدان الصحافة مراسلًا ومحاورًا وكاتبًا إلى أن تسلّم مواقع القيادة، وهو ينطوي على هذه الصفة الظاهرة فيه: الدبلوماسي الحصيف. فلا عجب وغرابة حين تركض خيله من ميدان الصحافة إلى مضمار الدبلوماسية سفيرًا لبلده ومليكه في بلاد أحبها وأحبته، دولة الامارات. هذا هو تركي.. عنوان ’دبلوماسية الصحافة‘”.
على درب الإضاءات الطويل، وفي صباح آخر يوم من عام 2018، عُين تركي الدخيل بأمر ملكي سفيرًا لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في دولة الإمارات، ممثلًا لوطنه ومرجعًا لجميع مواطنيه المقيمين والزائرين.
إنّ ما يُذكر في تركي الدخيل، وقائمة السمات أو الانتصار، عبر كل هذه السنوات، هو قليل من كثير عن الرجل، الذي أقل ما يُمكن أن يُقال فيه: “الرجل… الواقف في كل المراحل”.