تحدثت في مقال السبت (مَلّيت) عن إشكالية الملل التي يمكن ان تتسلل الى حياتنا، مع أن الكثيرين ممن يتسربل اليهم هذا الداء، ليسوا في مقاييس الشعوب الأخرى كباراً في السن.
اليوم اقف عند نماذج مختلفة تظهر كيف تتعامل الشعوب الأخرى مع الاهتمامات التي تزرع عناصر مشوقة في الحياة، تجعل المرء يقبل على الحياة بأمل مهما تطاول عمره.
بداية مفهوم التطوع في حياتنا غير موجود بالشكل الإيجابي والفعال الذي يمكن كل شخص من الانخراط فيه، بعيداً عن الايمان بالضرورة بإيديولوجيا الجهة التي يمكن ان يتطوع المرء لصالحها.
كان الرئيس الاميركي السابق، جيمي كارتر ولا يزال، يقذف بنفسه ضمن جمعيات خيرية تبني بيوتاً للفقراء، وكم من الصور ظهرت لرئيس كان بالأمس أهم شخصية في العالم، وهو اليوم يعتمر قبعة تقيه اشعة الشمس ويلف على وسطه حزاماً ملئت جيوبه بالمسامير ويأخذ في صنع منزل خشبي كما لو كان نجّاراً.
ولنأت إلى عدد جريدة الشرق الاوسط ليوم الجمعة فقد أشار إلى أن بول بريمر الدبلوماسي الاميركي المتقاعد والحاكم الاميركي السابق في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين، وهو الذي حكم العراق لأكثر من سنة، قال إنه كان يترقب وهو في بغداد العودة الى اميركا لممارسة هوايته الاولى وهي الطبخ. وأشار إلى انه يكتب حاليا، في منزله الصيفي في ولاية فيرمونت، مذكراته عن الفترة التي قضاها في العراق، ويطبخ في مطبخ عملاق حلم به عندما كان في بغداد.
ربما كان بريمر انغمس في تفاصيل الطبخ حتى ولج هذا العالم من أدق تفاصيله، أو حتى يمارس هذه الهواية بعيداً عن الاحتراف، لكنه في النهاية يجد نفسه فيها، ويستمتع بها، ويذيب كل همومه في كأسها الساخنة بمتعة منقطعة النظير.
بريمر قال إنه لم يطبخ ابدا عندما كان في العراق، ولكن «الحلم بهذا الموقد العملاق كان من الاشياء التي ساعدتني على عدم فقد عقلي (في العراق)». وزاد «وضعت صورة هذا المنزل على شاشة كومبيوتري في بغداد، وقلت لكل من سأل انني ابنى مطبخا عملاقا فيه». وقد زارت جريدة «واشنطن بوست» بريمر في منزله، وصورته وهو يطبخ ويرتدي زي الطباخين الابيض الرسمي، ويُعد طبق صدر دجاجة في صلصة جزر مفروم، على الطريقة الفرنسية.
وقال انه تعلم الطبخ عندما كان دبلوماسيا في اوروبا قبل ثلاثين سنة تقريبا، وتخصص في وقت لاحق في فن الطبخ الفرنسي، وتلقى دروسا فيه، وعندما كان سفيرا في هولندا، كان يدعو ضيوفه الى حفلات يطبخ فيها.
في الحياة أشياء جميلة كثيرة، لو أحسنا التقاطها… عندها سنبني، بدلاً من أن نهدم، ونعمر بدلاً من أن نيأس، وسيكون طعم اللحظات الحلوة أكثر عذوبة من ذي قبل.