قبل أيام، علّق الدكتور عبدالله الغَذَّامِي، المثقف السعودي، وأستاذ النقد والنظرية، على صورةٍ لرجلٍ مسنّ، يحمل بين إصبعيه تمرةً في مدينة عنيزة، مسقط رأس الدكتور، عراب البنيوية، (المولود في 15 فبراير 1946)، وقال: «يلتقطها… يرسل عينه تتأمل… ويشمها… ويرفق بها… يقرأ فيها ذاكرته، ويشاهد عمره كله فيها، ويشُم رائحة المزارع والفلاحين… الماء والسواني. ليتني كنتُ جنبه، لأقرأ أحاسيسه، ونبضات قلبه».
وكأن الغَذَّامِي، يتذكر بحنين جارف، شغب الطفولة الأولى، بين سواقي نخيل عُنَيزَة، المدينة الوادعة (وسط السعودية)، يوم فكّ صاحبنا الحرف في المعهد العلمي، منذ الابتدائية، حتى تخرج في الثانوية (1965). المعهد الذي يُكَثِفُ تدريس فنون الشريعة الإسلامية، واللغة العربية، لإعداد خريجيه، للسير بمسالك الإفتاء، وتسنم مناصب القضاء.
لا يكاد مثقف عربي، لا يعرف عبدالله الغَذَّامِي، اليوم، بعشرات الكتب، ومئات الأبحاث، وآلاف المقالات والمقابلات، وهو يمخر عباب العقد الثامن، من سني عمره، الثري بالعطاء الفكري، وصناعة الحراك الثقافي، وخلق الجدل النقدي، وبناء النظرية، وتشريحها. منظراً في البنيوية، ورأسمالية الثقافة، والشبيه المختلف، وثقافة الأسئلة، والحداثة، والأنساق الثقافية العربية، وظاهرة فقهاء الفضائيات، والحداثة، وهويات ما بعد الحداثة، التي اعتبرها القبائلية، حتى وصل إلى الليبرالية الجديدة، فالليبرالية الموشومة، فثقافة التلفزيون، التي عدها دلالة سقوط النخبة وبروز الشعبي، ولم ينس أن يمر على ثقافة تويتر، وما بعد الصحوة.
وفي كل كتاب يدفعه للمكتبة العربية، لا يلبث أن يعانق الرفوف، حتى تتصارع المعاني، وتتعارك الأفكار، حول الكتاب، بين تيارات التأييد والرفض.
يوم كان عبدالله الغَذَّامِي، شاباً يجوب أزقة عنيزة، كان يرى شيخ المدينة الشهير، وأيقونة علمها، ومنارة تسامحها، عبدالرحمن بن ناصر السعدي(1889-1956)، راجلاً في طريقه إلى المسجد، يُمازح هذا، ويتفقد ذاك، فيُقر الغَذَّامِي مفتخراً، أنه نهل من تسامحه. أما تلميذ السعدي، خليفته على كرسي علم عنيزة، الشيخ محمد بن صالح العثيمين (1929-2001)، فكان أحد أساتذة الغذامي، بالمعهد العلمي.
مسلك النشأَةِ الديني، لم يشفع للرجل، ولا منع عنه سهام النقد. انتقل للرياض وحصل على ليسانس اللغة العربية(1969)، ثم ابتعث من جامعة الملك عبدالعزيز بجدة لبريطانيا (1971-1978)، ونال الدكتوراه من جامعة إكستر، فعاد للسعودية، أكاديمياً نشطاً، فاعلاً في المجتمع، يُلقي المحاضرات، ويُحَبِّرُ المؤلفات، ويشارك في الأندية الأدبية، طارحاً أفكاراً جديدة على المجتمع، خاصته وعامته، فعانى من الحداثة والتحديث، فأصابه حسدُ الأصدقاء، ونَزَقُ الزملاء، وجهالةُ الأعداء.
في كتابه:«حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية»، ينقل معاناته من التيارين الإسلاموي والليبرالي، فالمثقف التقليدي، عده تابعاً متأثراً ببنيوية كلود ليفي شتراوس، وتفكيكية جاك دريدا، ودلالية رولان بارت، وكأن الإنسان يدور بين التقليد والنسخ، والإفلاس الفكري، بينما الغَذَّامِي صنع آلته من خلال قراءاته، وتوظيفها في منتجه لا يعني التبعية النسخية.
وما هو إلا نسيج الاطلاع والإبداع معاً، وتحويل النظريات الحديثة، لتكون منصاعةً لما يحتاجه الناقد ضمن بيئته الثقافية. أما التيار الأصولي فاعتبره «حاخام الحداثة»، كما في شريط وكتيب:«الحداثة في ميزان الإسلام»، وأصبح اسمه يُلاك على المنابر، وينبذ في أعمدة الصحف، وتكاثرت عليه لعائن التصنيف، وذبح بسكاكين التحريف، ولم تسلم أسرته من الترهيب والتخويف.
رزق صاحبنا، بخمس بنات، يعتبر نفسه محظوظاً بهن، ما يشكل ندرة في بيئة الشرق، ولعله سبب حضور جليل وكثيف للأنثى في تصنيفاته: (المرأة واللغة)، (مقاربات حول المرأة والجسد واللغة)، (تأنيث القصيدة)، (الجهنية: في لغة النساء وحكاياتهم)…
أواخر كتب الغَذَّامِي، باتت تتحدث عن اهتمامات العامة، عقب تفرد النخبة بالعناية بأوائلها، ما التقطه الدكتور جابر عصفور، المثقف المصري، بقوله: «عندما أسترجع الآن عناوين كتب عبد الله ومجالاتها المعرفية (التي كنت أحرص على متابعتها وقراءتها حرصه على إهدائي كل كتاب جديد يصدر له)، أجد المسافة بعيدة ما بين أول كتاب له صدر في عام 1985 وآخر كتاب أعرفه عن (الثقافة التلفزيونية) سنة 2004. وليست المسافة راجعة إلى النضج في هذا السياق، وإنما إلى الحرص الدائم على التجدد، والحيوية المقترنة برغبة التعمق. وأهم من ذلك الوعي النقدي الذي لا يحصر نفسه في النقل، أو في التقليد، وإنما يتسع بمداه لينتقل من الاتّباع إلى الابتداع حريصاً على تنوع المجالات وتعددها، مؤكداً دور النقد الأدبي في علاقته الفاعلة في المجتمع، وحرصه على الإسهام بالانتقال بهذا المجتمع من شروط الضرورة إلى آفاق الحرية».(الجزيرة، السعودية: 12/3/2007).
التهم التي رُشق بها الغَذَّامِي، على مدى خوضه غمار الشأن الثقافي، تنوء بها العصبة أولي الصبر والبأس، فمن التكفير، إلى التخوين وطنياً، وآخرها، إثر نقع محاضرة سل فيها سيوفه على الليبراليين، اسمها (الليبرالية الموشومة)، وصمه بالمتأرجح، المتقلب، لهثاً خلف الشعبوية الجماهيرية.
وسواء، قبلت التهمة، أو رفضتها، أو توقفت حيالها، فإن الرجل السبعيني، بلغ من الخبرة، ما جعله يتعاطى مع هذه التهم، وغيرها، بمنهج معاوية ابن أبي سفيان، القائل: «إني لا أحمل السيف على من لا سيف معه، وإن لم تكن إلا كلمةٌ، يشتفي فيها مشتفٍ، جعلتها تحت قدمي، ودُبُرَ أُذني».
جميع الحقوق محفوظة 2019