«أنتم تخلطون بين الحقيقة والرأي»، تلك هي الجملة الأكثر اعتياداً سماعها لدى زملاء المهنة ومديري التحرير والمقيمين دائماً في غرفة الأخبار، بطبيعة الحال ترافقها نبرة عتاب لا يمكن للعاقل نسيانها أو تجاهلها، تعود للبيت فتسألك زوجتك – إن كنت إعلامياً – عن رأيك في الخبر الذي كان قبل ساعة على الشاشة متأثرة باتصال صديقة أو بتعليق قرأته هنا أو هناك، تستجمع قواك لتعيد ذات الجواب الذي قلته اليوم مرتين وبالأمس ثلاثاً، وستحاول قوله بطريقة جديدة غداً.
أعود للتعلم من أطفالي دائماً – وهم أطفال ولو جاوزوا العشرين عند آبائهم – خاصة عندما أجلس وحدي متأملاً في فكرة استصعب علي حلها، أعود لحوار قديم أو سؤال مرَّ أمامي مرة أو حتى لقصة قديمة رووها لي بطريقتهم التي لا أملها.
كانت ابنتي، في فريق الحوار المدرسي، وكانت الأستاذة ذكية بما فيه الكفاية لتطلب من الفريقين أن يتناقشا بشكل واضح عن أزمة تشريعية في المدينة التي يدرسون بها، فلم تكن الولاية بعد قد شرعت إعطاء التصاريح لفتح محلات القمار في المدينة التي ضربها ركود اقتصادي، كانت الأستاذة نبيهة لتعرف أن الأميرة الصغيرة مسلمة، لا تهتم بهكذا مواضيع، ولكنه كان تدريباً لطيفاً على إفحام الخصم بالحقائق والحجج قبل الانتقال إلى اللمسة الشخصية التي سنسميها الرأي لاحقاً.
أقبلت على الصغيرة بكل اهتمام وسألتها يا ابنتي: ما هي المسافة بين الحقيقة والرأي؟
هل تنتظر الأستاذة منكم حقائق وأرقاماً، أو أنها تريد فعلاً اختبار قدرات فريقك أمام الفريق الآخر؟ أجابت طفلتي (حينها) بأن المعلمة تنتظر رداً مدعماً بالأدلة ومن ثنايا الأدلة يمكن لي تبرير وجهة نظري الشخصية، ابتسمت وأخبرتها أنها على الطريق الصحيح، فالحقيقة أمر يمكن إثبات صحته أو عدم صحته لكل عاقل، ونحتاج للبراهين وأحياناً حتى للبديهيات لتوضيح الصورة التي نفترض غيابها عن ذهن الآخر.
قبل أن تعدي نقاطك الحوارية، ضعي نفسك مكان الخصم المخالف، توقعي كل النقاط الخمس التي سوف يستعملها ضدك، اكتبيها واحدة واحدة، استعملي يدك الصغيرة لعدها، وباليد الأخرى، احصري نقاطاً تقابل تلك التي اختارها للهجوم، في فن الحوار، عليكِ أن تكوني مستعدة لتفنيد حجة المقابل، وإن مال لها قلبك وعقلك الصغير.
تجنبي الرأي الشخصي في الحوار، الذي سيكون ساخناً، يمكن للمشاهد والمتلقي أن يعرف مباشرة هواك وميلك لنقطة دون أخرى حين تستعملين مفردات متشابهة في كل اللغات، دعيني أحصرها كي تكتبيها وترسليها للنسيان: أولها الأفضل وثانيها الأسوأ، يمكن تلطيف ذلك دائماً بأن تجعلي تفضيلك في الأخير مسبوقاً بتأدب عالٍ مع المقابل، كأن تقولي: في نظري الشخصي، أو من واقع تجربتنا في الخليج العربي، أو حتى بمثال شخصي حصل معك أو مع واحدة من زميلاتك.
وفي الجزء الأخير، الذي تستميلين به عواطف الآخرين، فأنت تتبعين طريقة الفرنسي باسكال، حين يقول: «العقل لا يمكنه معرفة كل شيء، ولا يمكنه احتكار الحقيقة، هناك طرق أخرى تؤدي إلى الحقيقة منها القلب أو العواطف أو الوجدان».
ولا تنسي أن المدينة التي سيقام فيها الحوار، ليست مدينة سكانها من دين واحد أو خلفية واحدة، فالأرضية المشتركة بين سكان العالم هي الحقائق، ولا شيء غيرها، الناس يندهشون من الأرقام ويحبون الإحصائيات لأن العالم الجديد يحاول الهروب من مشاعر شخص قد يكون متأثراً بفكرة دينية أو مرجعية سياسية ويكثرون من الارتياب، لذا، ينفرون ممن يتحدث طويلا، ويتلاعب بنبرات صوته، استجداء لخيال المشاهد، دون أن يدهش عقله أو يدغدغ قلبه، ولا يمكن لمحاور مهما أوتي من قوة أن يصل لحالة الدغدغة الشعورية من دون أن يضحك القلب ولا ضحك للقلب قبل الحقيقة. وما هي الحقيقة؟ هي تلك التي تبحثين عنها وما زلت في منتصف الأربعين أركض خلفها، ولأجلها يستيقظ الناس وتستمر الجدالات في المقاهي البعيدة.
ولست وحدي ولست أنت وحدك، فأفلاطون من قبل الميلاد شكك في عالم الحس والحدس داعياً الجميع إلى البحث بطريقة جديدة: «إن ما نراه ونعتقده ونظنه لا يمكن أن نثق به، والبحث عن الحقيقة يتطلب انقلاباً جذرياً ضد العادات والتقاليد، لا بدَّ من التحرر من وهم وزيف عالم الحس والذهاب نحو الحقيقة العقلية الثابتة» أفلاطون (347ق.م – 427ق.م).
وكثيراً ما يحدث أن يتعارض العلم مع العقل، لذا يذهب العلماء إلى المختبرات يومياً وتذهب ملايين الدولارات على الأبحاث العلمية، يفترضون مشكلة ومن ثم يجربون قصورها حتى يكتمل الشك فتبدأ الرحلة، رحلة الإثبات التي ستعلمني وتعلمك أن حصر نقاط القوة ونقاط الضعف والخلل في أي فكرة قبل الهجوم على صاحبها هي الطريقة الوحيدة للخروج من أي حوار مرفوعة الرأس.
أما ديكارت، فلديه منهجية التفكير المنظم التي تقف على أربع قواعد: الشك، التحليل، فالتركيب… ثم أخيراً، المراجعة، ويمكنك تطبيقها يومياً في كل حوار: فالمعلمة لم تأتِ بالمشكلة إلا بعد أن تشككت في نوايا المشرعين بالمدينة، وأنت حين بسطت يدك الصغيرة بالإيجابيات والسلبيات، وبدأت البحث، فأنت تمشين للخطوتين الثانية والثالثة، وحين يرتاح قلبك لما توصل إليه قلبك، فهنا يبدأ التركيب.
تجنبي آراءك وتصوراتك السابقة، ضعي نفسك مكان زميلك الذي لا يشبهك في شيء ولا يجمعكما غير هذه المسابقة، ابسطي يدك اليمنى بحججه التي سيقدمها، راقبي لغتك جيداً، وحين تفندين حقائقه قدمي البدائل مستعينة بالعقل وعينيك على قلب المتلقي، ذاك الذي يعرف جيداً المسافة بين الحقيقة المحمولة بالأدلة المنطقية، وبين الرأي الذي يبدأ بالأفضل والأسوأ، ورأيت جدتي وعلمني أبي.
في رحلة الحقيقة لهزيمة الرأي، ستكونين وحيدة إلا من أدواتك العقلية وطريقة الشك التي تهدينا كل هذه الاختراعات اليومية في كل الحقول.
أعود للتعلم من أطفالي دائماً – وهم أطفال ولو جاوزوا العشرين عند آبائهم – خاصة عندما أجلس وحدي متأملاً في فكرة استصعب علي حلها، أعود لحوار قديم أو سؤال مرَّ أمامي مرة أو حتى لقصة قديمة رووها لي بطريقتهم التي لا أملها.
كانت ابنتي، في فريق الحوار المدرسي، وكانت الأستاذة ذكية بما فيه الكفاية لتطلب من الفريقين أن يتناقشا بشكل واضح عن أزمة تشريعية في المدينة التي يدرسون بها، فلم تكن الولاية بعد قد شرعت إعطاء التصاريح لفتح محلات القمار في المدينة التي ضربها ركود اقتصادي، كانت الأستاذة نبيهة لتعرف أن الأميرة الصغيرة مسلمة، لا تهتم بهكذا مواضيع، ولكنه كان تدريباً لطيفاً على إفحام الخصم بالحقائق والحجج قبل الانتقال إلى اللمسة الشخصية التي سنسميها الرأي لاحقاً.
أقبلت على الصغيرة بكل اهتمام وسألتها يا ابنتي: ما هي المسافة بين الحقيقة والرأي؟
هل تنتظر الأستاذة منكم حقائق وأرقاماً، أو أنها تريد فعلاً اختبار قدرات فريقك أمام الفريق الآخر؟ أجابت طفلتي (حينها) بأن المعلمة تنتظر رداً مدعماً بالأدلة ومن ثنايا الأدلة يمكن لي تبرير وجهة نظري الشخصية، ابتسمت وأخبرتها أنها على الطريق الصحيح، فالحقيقة أمر يمكن إثبات صحته أو عدم صحته لكل عاقل، ونحتاج للبراهين وأحياناً حتى للبديهيات لتوضيح الصورة التي نفترض غيابها عن ذهن الآخر.
قبل أن تعدي نقاطك الحوارية، ضعي نفسك مكان الخصم المخالف، توقعي كل النقاط الخمس التي سوف يستعملها ضدك، اكتبيها واحدة واحدة، استعملي يدك الصغيرة لعدها، وباليد الأخرى، احصري نقاطاً تقابل تلك التي اختارها للهجوم، في فن الحوار، عليكِ أن تكوني مستعدة لتفنيد حجة المقابل، وإن مال لها قلبك وعقلك الصغير.
تجنبي الرأي الشخصي في الحوار، الذي سيكون ساخناً، يمكن للمشاهد والمتلقي أن يعرف مباشرة هواك وميلك لنقطة دون أخرى حين تستعملين مفردات متشابهة في كل اللغات، دعيني أحصرها كي تكتبيها وترسليها للنسيان: أولها الأفضل وثانيها الأسوأ، يمكن تلطيف ذلك دائماً بأن تجعلي تفضيلك في الأخير مسبوقاً بتأدب عالٍ مع المقابل، كأن تقولي: في نظري الشخصي، أو من واقع تجربتنا في الخليج العربي، أو حتى بمثال شخصي حصل معك أو مع واحدة من زميلاتك.
وفي الجزء الأخير، الذي تستميلين به عواطف الآخرين، فأنت تتبعين طريقة الفرنسي باسكال، حين يقول: «العقل لا يمكنه معرفة كل شيء، ولا يمكنه احتكار الحقيقة، هناك طرق أخرى تؤدي إلى الحقيقة منها القلب أو العواطف أو الوجدان».
ولا تنسي أن المدينة التي سيقام فيها الحوار، ليست مدينة سكانها من دين واحد أو خلفية واحدة، فالأرضية المشتركة بين سكان العالم هي الحقائق، ولا شيء غيرها، الناس يندهشون من الأرقام ويحبون الإحصائيات لأن العالم الجديد يحاول الهروب من مشاعر شخص قد يكون متأثراً بفكرة دينية أو مرجعية سياسية ويكثرون من الارتياب، لذا، ينفرون ممن يتحدث طويلا، ويتلاعب بنبرات صوته، استجداء لخيال المشاهد، دون أن يدهش عقله أو يدغدغ قلبه، ولا يمكن لمحاور مهما أوتي من قوة أن يصل لحالة الدغدغة الشعورية من دون أن يضحك القلب ولا ضحك للقلب قبل الحقيقة. وما هي الحقيقة؟ هي تلك التي تبحثين عنها وما زلت في منتصف الأربعين أركض خلفها، ولأجلها يستيقظ الناس وتستمر الجدالات في المقاهي البعيدة.
ولست وحدي ولست أنت وحدك، فأفلاطون من قبل الميلاد شكك في عالم الحس والحدس داعياً الجميع إلى البحث بطريقة جديدة: «إن ما نراه ونعتقده ونظنه لا يمكن أن نثق به، والبحث عن الحقيقة يتطلب انقلاباً جذرياً ضد العادات والتقاليد، لا بدَّ من التحرر من وهم وزيف عالم الحس والذهاب نحو الحقيقة العقلية الثابتة» أفلاطون (347ق.م – 427ق.م).
وكثيراً ما يحدث أن يتعارض العلم مع العقل، لذا يذهب العلماء إلى المختبرات يومياً وتذهب ملايين الدولارات على الأبحاث العلمية، يفترضون مشكلة ومن ثم يجربون قصورها حتى يكتمل الشك فتبدأ الرحلة، رحلة الإثبات التي ستعلمني وتعلمك أن حصر نقاط القوة ونقاط الضعف والخلل في أي فكرة قبل الهجوم على صاحبها هي الطريقة الوحيدة للخروج من أي حوار مرفوعة الرأس.
أما ديكارت، فلديه منهجية التفكير المنظم التي تقف على أربع قواعد: الشك، التحليل، فالتركيب… ثم أخيراً، المراجعة، ويمكنك تطبيقها يومياً في كل حوار: فالمعلمة لم تأتِ بالمشكلة إلا بعد أن تشككت في نوايا المشرعين بالمدينة، وأنت حين بسطت يدك الصغيرة بالإيجابيات والسلبيات، وبدأت البحث، فأنت تمشين للخطوتين الثانية والثالثة، وحين يرتاح قلبك لما توصل إليه قلبك، فهنا يبدأ التركيب.
تجنبي آراءك وتصوراتك السابقة، ضعي نفسك مكان زميلك الذي لا يشبهك في شيء ولا يجمعكما غير هذه المسابقة، ابسطي يدك اليمنى بحججه التي سيقدمها، راقبي لغتك جيداً، وحين تفندين حقائقه قدمي البدائل مستعينة بالعقل وعينيك على قلب المتلقي، ذاك الذي يعرف جيداً المسافة بين الحقيقة المحمولة بالأدلة المنطقية، وبين الرأي الذي يبدأ بالأفضل والأسوأ، ورأيت جدتي وعلمني أبي.
في رحلة الحقيقة لهزيمة الرأي، ستكونين وحيدة إلا من أدواتك العقلية وطريقة الشك التي تهدينا كل هذه الاختراعات اليومية في كل الحقول.