تركي الدخيل www.turkid.net تتناول وسائل الإعلام هذه الأيام الحدث الليبي، الذي احتاج إلى شهورٍ طويلة، وإلى تدخل دولي، وقرار من مجلس الأمن حتى يتم، فتحت طرابلس في اليوم نفسه الذي فتحت فيه مكة، هكذا قال الثوار، ولم يسئ القذافي لأحدٍ كما أساء لنفسه وعائلته ولشعبه. لقد منحه الشعب الليبي 42 سنة من الحكم، ولم يفعل بها أي شيء يذكر، بل جعل الناس نكرات. وهمّش الشعب سائراً على عقلية الديكتاتور المغرور، لقد حول معمر القذافي كل ليبيا إلى جموعٍ من النكرات، الذين لا ينادى بأسمائهم وإنما بأرقامٍ اخترعها حتى على مستوى اللاعبين. يغار من أي اسم يبرز سواء كان اسماً فنياً أو رياضياً أو أياً كان. يريد لليبيا أن تكون محصورةً باسمه. غيّب ليبيا وحضورها الثقافي والأدبي والفكري والرياضي، وجعلها مرتهنةً لقراراته الخرافية، التي تصدر من خلال مزاجيته الخاصة والتي لا يمكن لأحدٍ أن يفهمها. أحداث طرابلس الأخيرة فتحت الباب على مصراعيه للعالم بأن للتاريخ صيرورته، وأن للتاريخ حتميته التامة في سيره، جرياً على القاعدة الشهيرة:”لو دامت لغيرك لما وصلت إليك”، لا شيء يدوم أبداً، جزء من انبهار الناس وتسمّرهم أمام الشاشات حتى الصباح في ليل الأحد الفائت 21 أغسطس جزء منه أنهم يرون نهاية تاريخ. أنهم يرون صنماً وقد تكسّر، وأن نصف قرنٍ من الإهانة والذل قد انقشع، إنه درس الدروس القوة وإسالة الدماء لا تحمي الحاكم من السقوط. والدنيا “دُول” كما قيل، كما أن الدهر “قُلّب” لا يقرّ على حالة، والثورات الحالية جعلت الناس تنتظر التغيير أو الإصلاح، ينتظرون الكرامة والعيش بمساواة والحكم بعدالة. والقذافي لم يستطع تلبيةٍ أيٍ من تلك الأشياء، لقد فرغ بلده من الوزارات ومن الخدمات ومن القضاء ومن كل شيء، جعله يسير على نظرية ساذجة في كتابه “الأخضر”، والتي بناها على “اللجان الشعبية”، ومن يقرأ الكتاب الأخضر يشعر أنه نظام لتحويل أي بلد إلى حالة تسيبٍ دائمة. توحي الأحداث الحالية بنذر تشكلٍ جديد في عالمنا العربي، سقوط أنظمة ثلاثة في أقل من سنة، محاكمة مبارك، وهروب زين العابدين، وملاحقة القذافي في الصحراء، كلها تبين لنا أن الدرس العظيم يكمن في الآتي: التاريخ لا ينتظر أحداً، إنه يسير من استطاع أن يركب موجته فقد نجى بنفسه، والمتواني والمتكاسل عن دخول العصر والزمن فإن التاريخ سيبتلعه. الشعوب كبرت صارت تعرف كل الفوارق بينها وبين الياباني والألماني ونظام العدالة البريطاني والحق السياسي للأميركي، يريد الفرد العربي أن يغير وأن يمارس حقه في الحياة. السعيد من وعظ بغيره، إن الإصلاح أمره في غاية السهولة لمن سهّله الله عليه، إنه “توزيع ثروة بعدالة، حرية سياسية وفكرية، عدالة قضائية، شراكة سياسية ومدنية” هذه هي الوصفات الجميلة، إذا تأملنا بالأنظمة التي سقطت نلحظ أنها افتقرت إلى تلك الشروط. حتى تؤسس لدولة صلبة عصية على الكسر دع الشعب يشارك في بنائها. إن سجن الشعب بجدران دولةٍ محتكرةٍ من قبل النظام وترويع الناس بالحديد والنار والمجنزرات والأدوات الأمنية، هذا هو ما يغرس الحقد وإرادة الثأر والتربص بالنظام. أيها العقلاء في عالمنا العربي، ليكن الإصلاح برنامجاً، لئلا يؤكل النظام الأبيض كما أكل نظام صاحب الكتاب الأخضر، فالعالم العربي اليوم يشرح حالته البيت الشعري القائل: ما بين غمضة عينٍ وانتباهتها ** يبدّل الله من حالٍ إلى حال! من الواجب على الثوار أن لا ينتقموا، وإذا كانوا رددوا بأن يوم فتح طرابلس وافق يوم فتح مكة فإن النبي عليه الصلاة والسلام حين فتحت مكة قال للقوم “اذهبوا فأنتم الطلقاء”. العفو أصعب من الحقد، والسماحة أصعب من الثأر، ولئن كنتم خضتم صعاب المعارك من قبل فلتخوضوا معارك مع تاريخٍ مضى لنسيانه وبدء صفحة جديدة وكما في القرآن:”عفى الله عما سلف”!
جميع الحقوق محفوظة 2019