أكثر المشكلات التي تحدث في الثقافة الإسلامية نابعة من علاقة قلقة بين النص الديني والواقع المعاش. جزء من أزمة التطرف الديني ذلك التمايز الكبير بين النص والواقع؛ فالنص في حقيقة الأمر هو الحامل لصور الواقع الذي جاراه واختلط به عبر الجدل والاحتكاك. لا يمكن للنص أن يتكوّن من دون واقع يحمله. لقد أتى فصل النص عن الواقع بنتائج وخيمة، وأفرز عن كوارث فكرية وثقافية لا نزال نعيش مراراتها إلى اليوم. يرى المؤلف والباحث: يحيى محمد في كتابه الجميل “جدلية الخطاب والواقع” أن: “النص والواقع توأمان محدثان عن الله تعالى، أحدهما يكشف عما في الآخر من حقائق، وقد درج العلماء أن يطلقوا على الأول سمة الكتاب التدويني، بينما أطلقوا على الآخر صفة الكتاب التكويني، فكل منهما يكشف عما يحمله الآخر من حقائق. وإذا كان من وظيفة الكتاب التدويني تغيير الواقع إلى حيث الكمال بالتدرج، فإن من وظيفة الكتاب التكويني العمل على تغيير مفاهيمنا عن الكتاب الأول بما يجعلها أقرب إلى الحقيقة”. من هنا فإن الواقع هو المجال الذي يتحرك فيه الإنسان؛ الذي نزل النص من أجله، كما أن مجريات الواقع بكل تحولاته وبكل مفاجآته يعبر عن سخونة ومرونة يتغير من خلالها فهم النص ذاته، من هنا قال السلف بصلاحية الإسلام لكل مكان وزمان، فالمكان والزمان هما عناصر الواقع الرئيسية. والنص ينظر إليه من زاوية من زوايا الواقع فيقرأ على طريقة، وينظر إليه من زاوية أخرى فيفهم فهماً آخر، كما فهم الصحابة قول النبي عليه السلام : “لا يصلّينّ أحدكم العصر إلا في بني قريظة”. انقسم الصحابة بصفتهم هدف هذا الخطاب إلى فهمين، وحينما عادوا إلى النبي أقرهم على كلا الفهمين. فدلّ هذا النص على تعدد الأفهام في النص الواحد، وأن هذا لا يخدش قداسة النص، ولا يدفع بنا إلى تهميشه أو إلغائه. أعجبتني عبارة أوردها المؤلف: يحيى محمد؛ في كتابه آنف الذكر، حينما قال: “مصدر الفهم الأساس للنص لا يمكن أن ينعزل عن الواقع. فالواقع هو مقياس الفهم والتحقيق قبل أي اعتبار آخر … الواقع هو في حد ذاته يعبر عن مقياس الحقيقة، وأي اصطدام به يعبر عن خطأ القضية، أو خطأ الإدراك”. من خلال اطلاعي عن قرب على أزمات التطرف، وانشغالي صحافةً وعملاً بهذه الظاهرة، تبين لي أن التجاهل المضن للواقع وأبعاده أثناء تفسير النص من أكبر الكوارث التي أججت التطرف، ومن أغزر المنابع التي تعيد تكريره وتوليده. إن الواقع المتحرك هو المجال الذي يتحرك داخله النص، وأيّ تجاهل للواقع هو بمثابة انتحار ثقافي يهدد نسيج المجتمعات، ويخربط أمن الدول. إن النص يحتاج إلى عقل مدرك لأبعاد الواقع وتعدديته، والانحباس وراء تفاسير ضيقة الأفق تدفع بالمسلمين نحو الهاوية. لقد جاء النص القرآني، نصاً بلاغياً هائلاً، حمل الكثير من الدلالات وحمل الكثير من المجاز- رغم الاختلاف الكبير في هذه المسألة- ونصّ بعمق القرآن، لا يمكن أن يدفع تفسيره والتصرف بأحكامه إلى من هبّ ودبّ. إن تخويل العلماء الراسخين الحقيقيين المتبحرين بمعرفة الواقع وبمعرفة الشريعة أول خطوة على الطريق الصحيح من أجل تحصين المجتمع من احتمالات التطرف. وحينما جاءت مقاصد الشريعة، فإنها جاءت لتضبط حركة تفسير النص في إطار الواقع ومقتضياته والحفاظ على مقدسات الحياة، كحفظ المال والعرض والدين والنفس والعقل. بوصفها مكتسبات الفرد في الواقع، ومن مقاصد الدين حفظها، حينها صار الخطاب -بسبب المقاصد- أقرب إلى الواقع، وإلى مصلحة الإنسان.
جميع الحقوق محفوظة 2019