قليلة هي الكتب التي تمنعنا من النوم إلا بعد إنهائها، أن نقول «لم أستطع إغلاق هذا الكتاب»، تحدث مثل هذه الحالات مع الروايات كثيراً، أو مع النصوص الخلابة، والقصص القصيرة المشذبة، مع قراءة نيكوس كازانتزاكس (1883-1957)، أو إلبير كامو (1913-1960)، وغابريال غارسيا ماركيز (1927-2014)، أو ماريو فارغاس يوسا (1936- )، كلها كتاباتٍ تسحر الألباب، ولعل القراء من الشباب والشابات قد باتوا من المدمنين على الرواية، وبرغم الحملة الشرسة، التي يشنها شاعر كبير مثل أدونيس (1930- ) على الرواية مفضلاً الشعر عليها، قائلاً إنه لايقرأ الروايات، إلا أنها باتت تنافس الشعر، ذلك أنها تتضمن حالة شعريةً بنفس الوقت.
لنقرأ مثلاً للأرجنتيني إرنستوا ساباتو (1911-2011) في رواياته، فهو فيلسوف وشاعر داخل النص الروائي، إذ يتضمن النص مقاطع شعرية، والمعالجة والوصف تكون ذات طابعٍ شعري، وإن لم تتخذ شكل الشعر على الطريقة الكلاسيكية.
كذلك الأمر لدى بورخيس (1899-1986)، فهو بكتابه «صنعة الشعر»، يصف حالة التشعب الشعري حتى في النص العادي، وذلك لأنه قلم بورخيس الخطير والآسر، وهو من طينة الكتاب الذين يصعب عليك إغلاق كتابه قبل أن تنهيه، ولعل الناقد الأدبي الألماني ميشائيل مار (1960- )، وصف علاقته مع نص بورخيس بطريقة رائعة: «من الخطأ أن تفتح أحد مجلدات مقالات الكاتب الارجنتيني خورخي بورخيس، أعني أنه من الخطأ فعل ذلك لوكان لديك خطط لعمل أي شيءٍ آخر خلال هذا اليوم، فهذه المقالات تشبه جبل المغناطيس في الحكايات الخيالية لايقع المرء في مجالها إلا وانجذب إليها، وبقي ملتصقاً لساعاتٍ طويلة، يقرأ المرء مقالين صغيرين أو ثلاثة، ويقلب الصفحة بحثاً عن الرابع، ويجد ضالته في الخامس، ويغوص في القراءة ساعاتٍ طوال، وهو في حالة الاهتمام المغمور بأقصى متعةٍ ممكنة».
يتحدث عن مغناطيس النص لدى بورخيس متسائلاً عن السبب والسر؟!
يضيف ميشائيل مار، أن بورخيس بقي مع كتاب قلة وفياً لنصه إذ: «يحاول أن يرسل أفكاره في كل الاتجاهات الممكنة، وتنطوي الأفكار أحياناً على مخاطرةٍ وهي دائماً متفردة، وكثيراً ما لانلتفت لهذا التفرد إلا بعد فترةٍ من الزمن… كثير من المعاصرين يبدون في الظاهر متفردين، لأنهم يسبقون روح عصرهم، مثلما تسبق السلحفاة أخيل».
في صيغة تهادي الكتب، وحين تكتشف نصاً عظيماً، تمرر الكتاب لصديق، هنا ستجد ضالتك، تبدأ حكاية النصوص وجاذبيتها، لتكون حديث الساعة، تتوزع الأسئلة بين القراء عن الكتاب الجميل، تتنوع معايير الحكم، بعضهم يرى في ثراء الكتاب معلوماتياً خياره المفضل، والآخر يعتبر الرصد أو التحليل النظري والفكري هو الأقرب إلى نفسه، بينما لايختلف القراء بشتى مشاربهم، على أن النص الممتع، والصياغة البارعة، والسبك النادر منتهى الطلب.
تداخلت الفنون على النصوص، الرواية محتوى الفنون، في رواية مثل «العصفورية» لغازي القصيبي (1940-2010) على سبيل المثال، في جوفها التحليل السياسي، والنص الشعري، والعوم في بحار الفلسفة، والنقد المجتمعي… الرواية تخاتل وتحمّل النص ما لايستطيع النص الشعري أو الفكري تحمله، وفي دراسةٍ قام بها المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري (1939- )، لرواية العصفورية، رأى فيها عملاً فكرياً يتجاوز حصون الرواية الكلاسيكية وأسسها، بل إن غازي بنصه هذا صدّع وفجر مفهوم الرواية المعتاد لدى نجيب محفوظ (1911-2006)، أو حنا مينه (1924-2015)، وجمال الغيطاني (1945-2015) وغيرهم، ليضع نص العصفورية متاحاً سائلاً متغذياً على مجالات معرفية عديدة.
الخلاصة، أن النص الممتع لايحصره مجال، والكتاب الرائع لايحد بوصف أو معيار، بل إن النص العظيم ذلك الذي لايمكنك التخلص منه، أو نسيانه، بل يتلبسك، ويأخذ من تفكيرك ومساحةً من ذاكرتك!
هكذا يمكننا اختيار النصوص الرائعة، فإن القراءة ليست مجرد معرفةً ومعلومة، بل متعة أخرى من متع الحياة.