«أفضل لاعب في كأس العالم»، ليس آخر ألقاب الراعي الصغير، فكرواتيا التي لم تُهزم في أي مباراة سجل فيها لوكا مودريتش، تنتظره بالأحضان والقبل، وربما بالسجن لخمس سنين!
بملامح رجل هبط للتو من الجبل، بعينين غائرتين وشفة صموتة، يضبط إيقاع اللعب والملعب، هدوء من اعتاد النصر ولو بعد الدقيقة التسعين… صبر حراث، ووداعة راعي أغنام يعرف طريق العودة للبيت مهما كانت الطريق طويلة!
الرجل الذي فاز بكل ما هو ممكن، الهزيل الذي تقدم قبل منتخبه، ليحمل لقب أفضل لاعب في أفضل بطولة على وجه المستديرة، صعد للمنصة بدم بارد، وساقين مقوستين، وجذع قصير لكن عليه من الكدمات ما أوصلت هذا الفريق لأبعد مدى!
كرواتيا التي وصلت للمونديال من نافذة الملحق الأوروبي فكانت آخر الواصلين، تصعد الآن لتكون آخر المغادرين… كرواتيا بفريق الناجين من المجزرة، تنهزم فقط من منتخب المهاجرين الوسيمين «فرنسا»، وإن كانت قصص المهاجرين الفرنسيين معروفة بزيدان وكل هؤلاء القادمين من المستعمرات الفرنسية البعيدة، أو بمراكب اللجوء المهلهلة، فإن منتخب الكروات هو منتخب الناجين من المجزرة، ولوكا مودريتش يستحق شارة القيادة، ليس لأنه لاعب ريال مدريد، وتوتنهام، والرجل الذي كاتف في الدوري البوسني حتى قال: «من يستطع اللعب في الدوري البوسني، يمكنه اللعب في كل مكان»، ولا لأن ملامحه الحزينة تشبه تسعينات مجازر الحرب في بلاده، بل لأنه النحيل الذي قابل رفض المدربين جسمه الهزيل بالتمرين المستمر، بالعزيمة التي لا تفرح للمركز الثاني خلف فرنسا، فما وجده في حياته القصيرة – مواليد التاسع من سبتمبر (أيلول) 1985 – يعطيه حق الحلم بالأفضل دائماً!
في قريته الصغيرة رعى الأغنام. ستجد الفيديو بمجرد كتابة طفولة مودريتش، جزءاً من فيلم وثائقي لمخرج مهووس بالذئاب، ساقته الأقدار لقرية مودريتش، ليخلد لنا مشيته التي لم تتغير وهو مثقل بمعطف ثقيل في بلاد باردة، يطارد أغنامه الصغيرات ويحميها من الذئاب… الذئاب التي ستبقى متشكلة في طمع الناس بموهبته، عليك أن تعطي قليلاً كي تحتفظ بالبقية، هكذا يُحفظ الرعاة أبناءهم قوانين البرية.
فالرئيس السابق لنادي دينامو زغرب، زدرافكو ماميش، مدان بالاحتيال والفساد، ومودريتش ضحية في عيون محبيه ومتهم أمام القضاء، فالفتى الذهبي لكرواتيا – لوكا مودريتش – مدانٌ بتوقيع اتفاق طويل المدى مع الرجل الذي وصفه قبل أن يتراجع بأنه «ماكينة أموال»، كان لا بد من السماسرة حتى يصل إلى توتنهام وينتقل للدوري الأقوى، أصبحت حياته أجمل وانتقل لمدريد، واليوم يراه العالم محتضناً جائزة أفضل لاعب في كأس العالم، لكن قوانين العالم لا تتفهم تفاصيل البدايات الصعبة، ولا تعرف تجريح الأحجار في الحذاء البالي، لراعي أغنام على الجبال الكرواتية الباردة.
من عاملة النسيج، أمه الحنون، تعلم غزل الهجمات، لا يمكنك الوصول لخط النهاية قبل أن تتعب كثيراً في حياكة التفاصيل، التي لن تكون مهمة قبل اكتمال خريطة المخيطة. والده الميكانيكي البارع، رجل الهوائيات الذي خدم في كراج عربات الجيش الكرواتي أورثه – ربما – هذه القوة البدنية الهائلة غير ظاهرة للعيان.
يعرف الجميع أنه حين انتقل لمدريد، حقق معه كل الألقاب الممكنة، لكن رجلاً واحداً آمن به في طفولته، رجلاً واحداً رأى كرة القدم جميلة بين قدمي الطفل القصير، توميسلاف باسيك، رئيس أكاديمية الشباب في نادي زادار، فتبنى الموهبة حتى وقع دينامو زغرب – الفريق الأشهر في كرواتيا – عقداً عام 2001 مع الرجل الصغير.
وفي زغرب سيتعرف على ماميش، رئيس النادي الذي دعمه جيداً مقابل توقيع بالحصول على نسبة من أي عقد قادم في حياته، لم يكن لوكا الوحيد، لكن المبالغ التي ستُدفع له لاحقاً ستكون الأكثر والأضخم، ربما في تاريخ اللاعبين الكروات من جيله. واعترف مودريتش في 2015 أنه حوَّل عدة ملايين من الدولارات لرئيسه السابق، لكن في 2017 تراجع عن تأكيده، وقال إنه لا يعرف شيئاً عن الموضوع، وهو ما حوله وقتئذ إلى موضوع للسخرية في كرواتيا.
نعود لكرة القدم، فبالنسبة لمودريتش «لا شيء يتغير إذا لعبنا جيداً، سنكون دائماً فريقاً خطيراً»، هذه عقيدته وقناعته في الملعب، وكل من شاهد منتخب كرواتيا الذي لم يهزم في كأس العالم، سيعرف أن هذا الفريق ما هو إلا مجموعة من الرجال العاديين الجادين جداً!
كرواتيا لم تكسب فقط المركز الثاني في كأس العالم، بل سرقت الأضواء بانضباط لاعبيها العاديين، بالروح القتالية لرجال يريدون الخروج من ذاكرة مثقلة بكل شيء، ابتداءً من طفولة قاسية في كرواتيا الاشتراكية، وصولاً إلى امتعاض الروس من جملة «المجد لكرواتيا»، لكن واقعية الكروات التي انهزمت من أناقة أبناء حواري فرنسا الخلفية، لم تنس مودريتش طفولته كلاجئ هرب من الحرب ذات يوم، ففي اليوم العالمي للاجئين، دعت شبكة مناهضة التمييز والعنصرية في كرة القدم الأوروبية «FARE» مؤخراً، مجموعة من النجوم الذين عاشوا اللجوء في طفولتهم، لتكوين فريق واحد والاحتفال باليوم العالمي للاجئين. راعي الغنم الصغير كان أول الحاضرين، وفاءً لجده الذي يحمل اسمه – لوكا – والذي قتل مع ستة آخرين، قبل أن تغادر العائلة البيت الذي سيحرقه المنتصرون كي لا يعود الراعي إلى الجبل القريب.
هل سيعود لوكا الصغير بطلاً قومياً في كرواتيا، أم سيتحول إلى ثاني أكثر رجل مكروه في كرواتيا بعد انتهاء كأس العالم؟!
لا أدري، فالذئاب ليست فقط على قمم الجبال، تضحك من انتصارات الراعي الصغير!
جميع الحقوق محفوظة 2019