«وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا»، آية من سورة إبراهيم ردّدها قلبي، وأنا أجلس داخل قبة «متحف اللوفر أبوظبي» في جزيرة السعديات، الذي يؤمه ناس من مختلف البلدان، ومعظم معروضاته معارة من «متحف اللوفر باريس»، وتنتظم هنا في نشاطات يومية حافلة بورشات التدريب في الرسم والنحت والحياكة، والندوات، وعروض الأفلام. موسمه الحالي، وعنوانه «مجتمعات متغيرة»، يعرض 600 تحفة فنية من قطع أثرية، مما قبل التاريخ إلى أحدث الأعمال الفنية المعاصرة، ويتضمن أربعة معارض تُعرِّف بدور الفنون كشاهد على تغير المنظومة الاجتماعية عبر التاريخ، من التراث غير المادي إلى المستقبل الرقمي، وتجسدها حفلة موسيقى نابضة بالحياة، مستوحاة من الفن التكعيبي، وعروض راقصة وبهلوانية في الهواء الطلق خارج قبة المتحف.
و«هدف الفن هو غسل تراب الحياة اليومية عن أرواحنا»، عبارة بيكاسو المعلقة في معرض بالمتحف، تراها في وميض عيون زوار المتحف، الذي ينظِّم للراغبين منهم جولات إرشادية داخل قاعاته، التي تروي قصة الإنسانية عبر 12 فصلاً ملهماً، تكشف الأفكار المشتركة والروابط بين الثقافات، ويتضمن معرض «لقاء في باريس»، الذي يقيمه «اللوفر أبوظبي» بالتعاون مع «مركز بومبيدو»، أعمال فنانين عالميين عاشوا في باريس، مثل بيكاسو الإسباني، وشاغال الروسي، ومودلياني الإيطالي.
وعلى مرمى حجر من «متحف اللوفر أبوظبي»، يجري بناء مُجمّع «العائلة الإبراهيمية»، الذي يضم ثلاثة مبانٍ للديانات الإسلامية والمسيحية واليهودية، و«فكرة وجود مبانٍ متجاورة مخصصة للديانات الإبراهيمية الثلاث، وفي موقع واحد، مثيرة للاهتمام، لكن «أسلوب تنطيقها التصميمي يبدو ويغدو كذلك حدثاً معمارياً لافتاً ومثيراً في آن»، كتب ذلك الأكاديمي المعماري العراقي خالد السلطاني في رسالة شخصية، ذكر فيها أن «ديفيد أجايا»، مصمم المجمع، معماري بريطاني أصله من تنزانيا، وقد أقام بنايات في بلدان عدة، واصطفى لمباني مُجمّع «العائلة الإبراهيمية» ذات المحتوى الثقافي المميز، لغةً تصميمية حداثية، أُريدَ بها أن تعكس طبيعة الحدث الآني، مع التأكيد على خصوصية تلك المباني بتوظيفات رمزية لعناصر تلك اللغة، قابلة لأن تحدد وظيفة كل مبنى، وتشي بـ«عنوانه» الديني، وسعى لكي تكون «كتل» المباني متماثلة نوعاً ما، تعبيراً عن «مساواة» بين الأديان ووحدة مصدر رسالاتها، وفعّل تنسيقُ الفضاءات الخارجية موضوعة المُجمّع، حيث جعل «مفرداتها» الطبيعية، وهي هنا الخضرة والأشجار، تشتغل لاستيلاد حالة بمقدورها أن تربط ربطاً «طبيعياً» ومنسجماً بين كتله، بمعنى آخر يتوق المعمار هنا، لتذكيرنا بقيمة «الطبيعة» الحاضرة بقوة في المُجمّع المصمم، وبرمزية «المساواة»، وإمكانية خلق «حوار» متناغم، زاخر بشعور احترام معنى العمارة المجترَحة ودلالاتها الدينية، والتوق لمعرفة «الآخر».
وقد حظيتُ بزيارة لمقر العائلة الإبراهيمية، ومتحف «اللوفر أبوظبي»، ضمن وفد الكتّاب المشاركين في المنتدى السنوي الرابع عشر لصحيفة «الاتحاد»، المنعقد مؤخراً في أبوظبي، تحت عنوان «الأخوة الإنسانية.. رؤية الإمارات لعالم متسامح»، كما اطلعت على الإصدار الأخير لتركي الدخيل، السفير السعودي في دولة الإمارات (سبق أن ترأس قناة «العربية»)، وعنوانه «التسامح زينة الدنيا والدين»، وهو مجلد من 333 صفحة، يقوم بمسح تاريخي أدبي فلسفي، يجعلك تعيد النظر في كثير من أحكامك المسبقة. إنه كتاب زاخر باقتباسات «ربيعية الأعطاف»، حسب المؤلف، بينها قول السيد المسيح: «أحِبوا أعداءكم وصَلّوا لأجل من يضطهدكم»، وقول الفيلسوف الفرنسي إدغار موران: «الصفح مقاومة لبشاعة العالم»، وقول أبي حنيفة: «لا نُكفر أحداً بذنب، ولا ننفي أحداً من الإيمان»، وقول علي بن أبي طالب: «معروفُ زماننا هذا مُنكر زمان مضى، ومُنكر زماننا معروف زمان لم يأت»، وقول الشاعر حافظ إبراهيم في قصيدته «تحية الشام»: «لا فرق ما بين بوذي يعيش به// ومسلمٍ ويهوديٍ ونصراني»، وقول الشاعر العراقي محمد صالح بحر العلوم: «ما الدينُ فرّقنا ونحن أحِبةٌ// لكنما عَبِثت بنا الأهواءُ. إن المذاهب كالزُّهور تَنَوَّعت// ولكُلِّ نوعٍ نفحةٌ وزهاءُ».
*مستشار في العلوم والتكنولوجيا