سلامٌ على أبي عبدالله.. يومَ مَقْدَمِه، بركة على أهله، خفيفاً عليهم، وعلى أُمّه، رحمها الله، التي صارت روحه، مذ سقت تُرابَ رحمتها بـ«بكوته» الأولى. سلامٌ يومَ قالَ إنها سِرّه وبركةُ عُمره، وزمانه ومكانه، وقلبهُ المطرَّزُ على جبينه.. يومَ مقدمه، خفيفاً يزرعُ مشيتهُ الأولى، في رمال محافظة «الغاط»، مسقط رأسه.. خفيفاً حافياً مليئاً بالحب، لمُحافظة، شبابيكها مفتوحة على وطنه، ونخيلها أخضر كأنّه حيكَ من لون راية الوطن.
سلامٌ عليه وقد أحب وطناً يسعُ الجميع، داراً بلا جدرانٍ وسكناً بلا أقفال، رحباً لا يضيقُ به المدى. وطناً، نحبه كما أحبه، ونخاف عليه كما خاف عليه، معجزةً تفردُ بَرَكَتَهَا شراعَاً لنا وله ولو كان يتيماً.. وطناً باسطاً كفّيه…
خمسة عقود ونيف قضاها صاحبنا، في مهنة منحها كلّه. جاءها يتيماً، فقيراً، فكانت عوضاً عن ألم اليتم، ومعاناته. دون تعب أو مللٍ، قضى أبو عبدالله، في رئاسة التحرير، واحداً وأربعين عاماً، كانت عاصفة، بالمعارك، والمنافسات، فخسر بعضها وفاز في أكثرها، حتى صار لقبه المعتمد ملكياً، (ملك الصحافة).
إنه أحد أهم الصحافيين السعوديين، الراحل، أبو عبدالله، تركي العبدالله السديري (1944-2017)، رحمه الله… فكما أحسن المشي على رمال نجد خفيفاً، فقد أحسن المشي بـ(جريدة الرياض) واثق الخطى، متربعاً على بساط صاحبة الجلالة، حتى قلّدها تاج التميز عقوداً.
يخطئ من يعتبر أنَّ من صفات أبي عبدالله، الغرور أو التكبر، لكنه كان على درجة عالية من الثقة بنفسه، والاعتداد برأيه، جاداً حدّ الصرامة، قوي الشخصية، لا يقبل أنصاف الحلول، ولا يسمح للتساهل أن يخالط العمل، أو للكسل أن يكون زائراً للجريدة، فتراه يزأر غضباً على التهاون، ويغضب من التخاذل.
إنه سفير الصحافيين عند الملوك، وملك الصحافة الذي لا يوصد له باب. من يعرف مداخل أبي عبدالله، يجده خفيف النفس، دمث الأخلاق، ومواقفه الإنسانية تشهد بذلك.
وأحسِن بوصف، الأستاذ، سمير عطا الله، للراحل المقيم، فقد اعتبر، تركي السديري: «البدوي، النبيل، الأليف، الودود، المتواضع، العادل وحارس الصداقات، (…) وخِل الناس، ورفيق الملوك، سريع الرد، قليل الغضب، سيفه قلم من محبة، ودرع من حماية ضد كل ظلم، سواء كان المظلوم صغيراً أو كبيراً». لقد كان أبو عبدالله للصحافيين السعوديين بمثابة الأب، كما عبر الأستاذ، مشاري الذايدي.
تبدو الكتابة عن الصحافي السعودي الشهير، الأستاذ، تركي العبدالله السديري، رحمه الله، مثل مغامرةٍ على مرتفعٍ وعر؛ فالجبال هي الجبال، كما يقول محمود درويش. أتُرى من إيضاح الواضحات، القول إن سمو الجبال الشاهقة، يجعلها لا تعرف كيف تنخفض؟!
عندما تكتب عن شخصية واسعة الأثر، عظيمة المآثر، وبخاصة إذا لم يصحب تراثها الباقي ضجيج، فهذا يزيد الأمر صعوبة. هؤلاء هم الذين، «يمرّون خِفافاً على الرمل».
في التراث، بابٌ في التراجم، لمن غلبت كنيته اسمه، ويكاد أبو عبدالله، السديري، يكون من هؤلاء. وهي مزية يختص بها السعوديون أكثر من غيرهم، فليس أعز على العربي الأصيل، من أن تدعوه بكنيته، دون ألقاب تفخيم أو تعظيم، بداية بالملك، وليس نهاية بأصغر سعودي، وليس في السعوديين صغير، لذلك يقول أبو تمام:
أُكنيه حين أناديه لأكرمه
ولا أُلقبّه والسوءَة اللّقبُ
كذاك أُدِّبت حتى صار من خُلقي
إنّي وجدتُ مِلاك الشيمةِ الأدبُ
بين الفقر واليتم!
قد لا يعرف كثيرون أن تركي السديري، نشأ فقيراً ويتيماً، في «الغاط»، المحافظة الوادعة، شمال الرياض، التي باتت لعناية أهلها من السدارى خاصة، واحة زراعية بين جبال طويق الشهيرة. وهي محافظة فريدة، كونها تجمع ثلاث بيئات مختلفة، في منطقة صغيرة جغرافياً، الجبلية، والزراعية، ورمال النفود الساحرة، ومن شك فليزر منتزه الغاط الوطني، ولن يندم.
الحديث عن «الغاط»، يعدُ مدخلاً أساسياً لفهم شخصية ملك الصحافة، فحين تتخيل طفلاً يستيقظ على عظمة طويق، ومزارعاً بسيطاً يرى دهشة الأرض، من اخضرار السفح، وزهور العشب تملأ المروج، عقب الحيا والمطر، ستعرف أنَّ بيئة كهذه لا بد أن تؤثر فيه.
وربما تندهش، أن أبا عبدالله، اضطر في بداياته الصحافية، أن يكتب باسم تركي العبدالله، بحسب الأستاذ يوسف الكويليت، الذي قال لي إن الراحل كان يخشى أن يمهر اسمه بعائلته، فيقصده محتاج، وهو غير قادر على إعالة نفسه، فكيف بغيره!
لكنك لن تندهش من اعتراف أبي عبدالله بكونه قاصاً فاشلاً، إذا أيقنت الفرق بين أن تكون ممتلئاً أو متغطرساً، فليس من عادة المتكبرين الاعتراف بالفشل.
غير أن كتابة القصة، والاهتمام بالأدب، جعلا من (الرياض)، رياض تركي السديري، صحيفة ميّالة للأدب، (كان قسم الثقافة فيها مهما وبارزاً ونخبوياً وطلائعياً)، قوية في زوايا الرأي، أكثر من قوتها في المواد الصحافية، من تحقيق، وتقرير، ونحوه.
كما أن زاويته اليومية (لقاء)، التي كتبها أبو عبدالله بانتظام لبضعة عقود، كانت قطعة أدبية، خصوصاً في عنفوان صحته، رحمه الله.
لقد كانت بدايات أبي عبدالله، الصحافية، من بوابة القسم الرياضي، البداية لا تخلو من غرابة ولطافة! فقد حدثني بنفسه، يوماً، أن بداياته الصحافية الرياضية، ميزته بالصدفة، فقد برز، حينها، لاستخدامه الأسلوب الأدبي في تغطيات الرياضة، بحكم قراءاته الروائية. ومع أنه كان يحضر في المدرج بالملعب لتغطية المباريات، إلا أن نظره الضعيف، لم يكن يسعفه لمشاهدة واضحة، فكان يطلب ممن حوله أن يشرح له ما يحدث داخل المستطيل الأخضر!
روى لي أبو عبدالله القصة، عام ١٩٩٧، بباريس، وكنا ضمن وفد صحافي يغطي زيارة الأمير سلطان رحمه الله إلى فرنسا. كان تركي، حينها، ملء السمع والبصر، ولم يجد حرجاً، لأنه كان مليئاً واثقاً، أن يروي لشاب صحافي لم يتجاوز عمره خمسة وعشرين ربيعاً، هذه البدايات الغريبة، دون إحساس بالحرج.
ليس لدى الكبار ما يخيفهم، فيخفونه، وهكذا كان تركي السديري.
السيرة المفقودة
رفض تركي، الحديث عن نفسه في حياته، ولم يكتب سيرته، وليته فعل، ولكنني عثرت على شيء منها عند أحد معاصريه؛ الأستاذ عثمان العمير، الذي روى بدايات السديري بعد رحيله، قائلاً: «كان «حي المرقب» يشكل، مع مجموعة أحياء متلاصقة، قلب الرياض النابض، بل محور حركتها. فهنا الإمارة، القضاء، الأسواق، المحاكم، الشوارع الضيقة، التي بالكاد تتحمل عبور سيارة واحدة… كانت هناك بدايات تركي السديري، الطالب في جامعة الرياض، المنشأة حديثاً آنذاك. ثم، كاتب القصة الفاشل، الذي تحوّل للأدب فترك الجامعة، ثم انتقل للرياضة، حيث انتمى لنادي الهلال، أشهر الأندية السعودية وأكثرها شعبية، ومنها إلى سكرتارية النادي».
لم يطل مكث تركي السديري بين جدران الأندية الرياضية، واختار أن يأوي إلى جبل الصحافة، الذي سيعصمه من النار والموج والماء.
أسس السديري مع مجايليه، قيماً جديدة في مجتمع ناشئ، بينها روح المنافسة الجادة، حد الشراسة، بين الأقران، ولنتتبع مسيرته لنتعرف على هذه المنافسة، التي كانت تحتد أحياناً: بدأ يكتب في «الجزيرة»، ثم اختير محرراً رياضياً في جريدة «الرياض»، ومن تلك الانطلاقة أضيئت في «حي المرقب» منارة جديدة، وسلطة أخرى، سلطة الصحافة. وبداياتٌ لإعلام نما بسرعة نمو البلد، لذا تدرج تركي من محرر رياضي، إلى سكرتير للمحليات، ثم سكرتيراً للتحرير، وأخيراً رئيساً للتحرير، وفي كل مرحلة يحمل معه حزم الطموح، وقوة الشخصية، التي لا تقبل الأخطاء، وقلم الكاتب الذي يعرف كيف يخاتل الرقيب، وشخصية رئيس التحرير، التي تدفع بالمجتمع من خلال جريدته، إلى الانفتاح والتطور، ومواكبة العصر بما يليق بدولةٍ، صارت محط أنظار العالم.
ما كان يُطلق عليه السديري، «محاولة إدخال الأدب إلى التغطيات الرياضة»، تلك التي يسميها بأدب جم محاولة، هي ذات التجربة التي يقول عنها، عراب الإعلام الرياضي العربي، الأستاذ حسن المستكاوي: «إنه -أي أبا عبدالله الكبير- صانع الصحافة الرياضية الخليجية، وأول من قرأت له، وخشي منافسته نخبة من إعلام مصر الرياضي والفرعوني. ريشة تركي السديري كانت قوية صامدة، كأبي الهول وخفرع».
قائد الصحيفة الأعلى ربحاً
اللعب الجميل، يمكن أن يؤدي لفوز ساحق، إذا أتقنت بناء الهجمة، وأحسنت الاستيقاظ صباحاً كل يوم. ربما تكون هذه هي الجملة، التي بقيت في رأس تركي السديري، وهو ينتقل من الصحافة الرياضية، إلى رئاسة تحرير جريدة بحجم (الرياض)، الصحيفة التي سيكون زعيما لها لأكثر من أربعين عاماً.
اعترض كثيرون، على طول بقاء أبي عبدالله، على سدة رئاسة التحرير كل هذه العقود، ولم يكن من بين المعترضين واحد من المساهمين في المؤسسة وملّاك الأسهم فيها، فقد تحولت أسهمهم التي اشتروها بمبالغ زهيدة طوال عقود ثلاثة على الأقل إلى دجاجة تبيض ذهباً وألماساً ونفطاً!
خلال فترات ازدهار رياض تركي السديري، الذهبية، كانت بعض وكالات الأنباء العالمية، تعتبر جريدة (الرياض)، لسان الحكومة الناطق، كلمة الرياض الافتتاحية، التي كانت تنشر عقوداً دون اسم، تكتب في الديوان الملكي، أو في أروقة وزارة الخارجية السعودية!
كان المجتمع الصحافي يعرف أن الأستاذ يوسف الكويليت، هو كاتب الافتتاحية الشهيرة، وقبل نحو عشر سنوات من مغادرة السديري رئاسة التحرير، قرر أن تكون الافتتاحية الشهيرة، موسومة باسم الكويليت يومياً، ربما نكاية بمن أبعد النجعة في نسبة الافتتاحية للحكومة، وتكريماً لكاتب راقٍ هو يوسف الكويليت.
الذين كانوا يصفون السديري، أو (الرياض) بأنهم صحافيون حكوميون، لم يقفوا على حجم الصراع الذي خاضه أبو عبدالله مع الرقابة، ومع وزارة الإعلام تحديداً، ولا على حجم الكتاب الذين أوقفوا في الرياض، وحافظ رئيس التحرير على مكافآتهم طيلة فترة وقفهم ولو امتدت لسنوات. يقول الكويليت: لم يكن تركي رئيس تحرير، بل محامياً شرساً مع الصحافيين والكتاب، ضد من يحاول وفقهم سواء كان وزيراً أو مسؤولاً، أو وزارة. ولذلك وصفه الأستاذ، عبدالرحمن الراشد، بأنه حارس الصحافيين السعوديين، بالنظر إلى حماسته في الدفاع عنهم جميعاً.
وقصة تركي السديري، مع وزير الإعلام السابق، د. محمد عبده يماني، وقد أفضيا إلى ما قدما، شهيرة. فقد كتبت (الرياض)، بقلم أبي عبدالله، بجرأة تصف وزارة الإعلام بوزارة النفي، فبلغ الغضب بالوزير مبلغاً، أصدر معه أمراً بوقف الجريدة، لكن المساعي بين الفريقين، قضت بوقف تركي عن الكتابة، لما يزيد على العام، فعاد بقوة بعدها، ليكون تاريخ النجاحات المالية للجريدة في منتصف الثمانينات.
كان أبو عبدالله مفتوناً بالشعر، الفصيح والعامي، وربما رضع محبته من والدته، التي كانت تقرض الشعر، وعرفت مرجعاً بالحكمة والعقل بين عائلتها في مدينة الزلفي، رحمها الله.
وبالإضافة إلى الشعر والأدب، كان يمتلك مكتبة موسيقية تضم نوادر الشرق والغرب.
يبدأ دوام السديري، من أول الصبح حتى العصر، ثم يعود للمكتب من المغرب إلى العاشرة مساء. وكان مؤمنا بمبدأ الثواب والعقاب، فيعاقب المخطئ، وخصوصاً إذا كان خطؤه متعمداً، أو بدافع الإهمال والكسل، لكنه يحتفي بالمتميز، ويحفل به، ويكافئه. وكان سخياً بشهادة كل من حوله. يذكر مدير مكتبه، محمد الحسيان، جيداً ذلك الشهر الذي لم يبق فيه من راتب أبي عبدالله، سوى ٢٠%، لأنه ككل المديرين الأسخياء، يتفقد حاجات موظفيه، ومن قُدرَ عليه رزقه ذلك الشهر، فما عليه سوى طرق الباب، ليخرج دون طويل شرح، بورقة كتب عليها: «اعتمدوا صرف المبلغ، واخصموه من راتبي»، كان سريعاً في قضاء حوائج الناس، ومن اقترب منه عرف أن فزعاته كوقفات بدوي أصيل، على رأي فهد عافت.
وإن ذكرنا قبل قليل، كيف كان الرجل معتداً برأيه، قوي الشخصية، ثابت الحجة، إلا أنه لم يكن يحمل الحقد، ولو اشتد الخلاف مع غيره. يقول الأستاذ جميل الذيابي: «قد تختلف مع أبي عبدالله في الرأي بحدة، لكنه من الرجال الأوفياء الذين لا يحقدون، ولا يتنمرون، ولا يتنكرون، بل سيتواصل معك في الغد، بموقف نبيل، يُظهر أصالة معدنه، فيما لو هزتك ريح عاتية. لم يفقده المرض ابتسامته، ولم تذبل مع الألم قفشاته التي كانت ترياقاً للتعب والغضب. وظل حيث يكون مع الزملاء بلا استثناء مركز جذب، ودائرة معلومات متنقلة، وعوناً لكل من احتاجه».
السديري وهاشم والمالك… الأعدقاء!
يصعب ذكر تركي السديري، دون رفيقي دربه؛ الدكتور هاشم عبده هاشم (ولد 1945)، وترأس تحرير جريدة (عكاظ)، فترتين، والأستاذ خالد المالك (ولد 1943)، رئيس تحرير جريدة (الجزيرة)، لفترتين أيضاً، ولا يزال بمنصبه.
كان هاشم والمالك يمثلان مع الراحل، ما يمكن تسميته (الأعدقاء)، فهم أبناء مهنة واحدة، متقاربون في العمر، لكن المنافسة المهنية الشرسة بينهم، تجعلنا نستخدم المصطلح السابق، ولو تجاوزاً.
السديري، خصوصاً، في فترة غياب المالك عن رئاسة تحرير (الجزيرة)، تنافس بقوة مع هاشم في (عكاظ)، وفي منتصف التسعينات خاضا إحدى المعارك التنافسية، وهي معركة ضارية حول المنافسة على المليون قارئ!
كانت الصفحات الأخيرة لجريدتيهما ميداناً لمعركة إثبات الصحيفة الأكثر توزيعاً، على مدى أيام.
عندما ترك د. هاشم رئاسة تحرير (عكاظ)، في المرة الأولى، استكتبه خصمه اللدود، تركي السديري، في صفحات (الرياض)، فصار يكتب زاوية ثابتة في الصحيفة التي كان ينافسها!
مجدداً يثبت أبا عبدالله، علو كعب أخلاقياته.
لذلك يرى الدكتور هاشم أن نجاح تركي، لأنه نموذج مهني مثقف يفتح الأبواب للجميع.
السديري والمالك، رمزان لتنافس بالغ الأثر، كان حيناً لصالح الصحافة وتطورها، ورآه البعض تجاوزاً لحدود المنافسة المعقولة.
يروي المالك، في حوارٍ تلفزيوني، تاريخ تلك المعارك، بأن: «أساسها ببساطة أن السديري يريد الأفضل لـ(الرياض)، وكنتُ أريد الأفضل لـ(الجزيرة)». ورغم اشتداد معارك التنافس بينهما، كان في عمق كل منهما، ودٌ شديد للآخر، كما يقول أبو بشار، المالك.
في إحدى رحلات الملك سلمان، التقط عثمان العمير، صورة تجمع الرمزين، على طاولةٍ واحدة، تشرح عراقة الصحافة السعودية، وفروسية التنافس، مع أن أحداً منهما لا يسمح لغير صحيفته بالنجاح.
«يا رفيق العمر»، جملة نادى بها المالك، رفيق دربه، بعد أن وافته المنية. مقالة طويلة، مفعمة بالعاطفة، والمشاعر الإنسانية، قال فيها: «لا أحد اختلف مع أبي عبدالله أكثر مني، ولا أحد عاندني كما فعل تركي السديري، وأزعم أننا كنا نتعامل مع بعضنا بإعطاء قيمة ومعنى مغاير حتى في أسلوب خلافاتنا، وأننا نحسب كثيراً لما يمكن أن تؤول إليه مواقفنا التنافسية من تداعيات ونتائج، فلا نذهب بها بعيداً، وأن أيامنا رغم شراسة الخلافات أحياناً، لم يحد معها أحدنا عن التزامه الأخلاقي والإنساني في احترام المنافسة، وما كان يتولد عنها من تأثيرات على مستوى العلاقة الشخصية التي تظهر للجمهور، بل والحرص في البحث عن فرص لتطويقها، أو وضعها عند حدها وسقفها الطبيعي كأي منافسة بين صنعتين وعملين متجانسين، وكان تركي هو الفارس، والمعلم والصدر الرحب، في كل هذا».
كان أبو عبدالله، رحمه الله، قوي الشخصية، مهاباً، متعلقاً بـ(الرياض) الجريدة، إلى درجة أنه كان يعتبر أي إساءة لها، بل وربما اختلاف معها، إساءة لابنه الصغير، ليس هذا فحسب، بل صنع المركب وأقنع الفريق بالرهان والركوب لقطع البحر، فمن فرائده رحمه الله، أنه لم يقطع راتب كاتب أو موظف في حالة وقفه من جهة رقابية حتى يعود، ولو استمر الوقف سنوات. وعندما بدأت أرباح الرياض بالتحقق، اقترح ونفذ فكرة في غاية النبل، وإن واجهت خلافاً مع بعض ملّاك الأسهم، لكن السنوات أثبتت صدق رؤيته، وبعد نظره، فهو أول من اقترح منح الصحافيين أسهماً في ملكية المؤسسة، ما جعل الصحافيين الذين قضوا سنوات طوالاً في الجريدة، شركاء لا مجرد أجراء.
طور السديري الرياض، وأدخل عليها الألوان بعد أن كانت بالأبيض والأسود، وزاد ملاحقها وعدد صفحاتها وفتح مكاتب خارجية للرياض، في عواصم عربية وعالمية، ودعم عمل المرأة في الصحافة، ضمن أول الصحف السعودية، وضاعف حقوق الصحافيين المتفرغين، إذ كان حريصاً على التفرغ الكامل للصحافة، فهي في رأيه: «ليست مهنة فقط، بل هي الحياة والتواصل، والاكتشاف والابتكار… إنها بساط الريح، وصندوق العجائب».
ضريبة الإخلاص والجدية كانت تعباً يلازم كل من عمل تحت قيادة رجل لا يقبل أبداً بأن يكون الثاني في أي تصنيف. هناك ضريبة أخرى شخصية ففي سيرته بضعة إيقافات، حتى مازحه المرحوم، الأمير سعود الفيصل، قائلاً: «مع كل وزير إعلام تحتاج لتوقيف». فأصبح تركي يسخر من نفسه، وهو يتحدث عن علاقته بأول وزير إعلام سعودي، الشيخ، جميل الحجيلان، أمدّ الله في عمره، في مداعبة لطيفة: «أول وزير إعلام أوقفني 4 أشهر، وما زال من أعز الأصدقاء».
إثر أحداث اقتحام جماعة جهيمان الحرم المكي، مُنعت الصحف السعودية من النشر عن الحادثة، بينما كانت الإذاعات والصحف العربية والعالمية تنشر كل جديد، لينفجر السديري الذي شعر بأن صورة الصحافي السعودي تأثرت بشكل سلبي، ما سبب انحساراً للصحافة السعودية، زاد من قوى المتشددين، فلم يكن من أبي عبدالله الكبير إلا دعم التوجه التنويري، بمكالمة شهيرة مع الملك فهد رحمه الله، وما زلت أذكر جواباً علق في ذهني إلى اليوم من لقائي مع ملك الصحافة قبل ستة عشر عاماً، حين قال: «نحن بلد غير معاق، والانغلاق ليس من صالحنا». كان يدافع عن حرية رأي المخالف ما لم يصادر حق الآخر، فقد كان يرفض أن يُدعى المتطرفون بالإسلاميين، ومن تصريحاته الشهيرة قوله: «في العالم العربي تناضل الشعوب كي تحسن من حياتها، نحن أفضل من الجميع، والحكومة تحاول أن تطور وتتقدم للأمام، بينما مجموعة صغيرة تحاول اختطاف الدين والمجتمع»، وفوق ذلك فهو الرجل الذي يخجل -أيام ستار أكاديمي- من أن يكون له أي قريب في ذلك البرنامج، بل ويقترح إيقاف الاشتراك فيه وبثه لأنه طارئ على المجتمع، مستنسخ من برنامج غربي غايته الربح والانتفاع المادي فقط، وعندما مازحته: إذن أنت تتفق مع الإسلاميين في دعوة منع البرنامج؟ ابتسم وقال: «لا تقل عنهم إسلاميين يا تركي، هم أشبه بكتاب العرائض قبل خمسين عاما، وليكن، أنا أتفق مع كتاب العرائض ضد ستار أكاديمي»!
ملك الصحافة
الممتنون لأبي عبدالله كثر. وزاويته اليومية، كانت الوحيدة في الجريدة التي تنشر بلا صورة للكاتب. كانت فلسفته في ذلك بسيطة عميقة كشخصيته: لا أحب أن أتصور ما دامت كلماتي تصل. لا تزال صورة السديري وهو يستقبل الضيوف دوماً في بيته على مأدبته العامرة في مخيلة الكثيرين، إذ يقف أبوعبدالله، بالباب لابسا طاقيته البيضاء منتصباً على السفرة، رافضا الجلوس، متفقدا هذا، مالئاً طبق ذاك، وممازحاً هذاك. كان كريماً بماله ونفسه رحمه الله.
ومن جميل تواضعه، خجله حين سألته عن لقب (ملك الصحافة)، الذي أطلقه عليه، الملك عبدالله بن عبدالعزيز، رحمه الله، فقال لي: «هذا شرف لي وكرم بالغ من خادم الحرمين الشريفين، وما أنا إلا رجل من رجال كثيرين يا تركي، وأنت تعلم ذلك».
في آخر السطر، قبل دمع الوداع
ابتلي تركي، بمرض السرطان في معدته، قبل وفاته بثلاثة عقود، لكنه واجهه بصلابة، وشفي منه بعد معركة شرسة، وبات إثر ذلك إذا دُعي لوليمة اشترط على الداعي أن يخصه بطبقين صغيرين: أرز مسلوق، وخضار مسلوق أيضاً. ثم يكرر ثلاثاً طبقين صغيرين بحجم كف اليد… طبت حياً وراحلاً يا أبا عبدالله.