بعض الأشخاص كالأوطان إنما من غير حدود، تستكين إرادياً وتشعر أنهم معك في حلك وترحالك.
أعرف هذا الرجل منذ أكثر من ربع قرن. كانت صداقتنا وطناً، نلتقي فيه ومساحة تجمع إن لم يكن اتفاقاً فاختلافاً. لم نتقابل يوماً لا في بلده ولا في بلدي إنما في الفيافي – المنافي، لكنه من القلائل الذين تشعر بوجودهم قربك دائماً حتى لو مر عام من دون سلام أو كلام. رصيد محبة دائم التراكم، وشغف مستمر يتوهج بمتعة القراءة، والمتابعة، والمراقبة، لمعرفة اتجاهات الريح… ومن يقرأ مقدمات وارتدادات الرياح، أفضل من الذي يواجه العاصفة، بإرادة الشريك وعقل الحكيم وقلب المحب.
كان تركي الدخيل مرناً في كل شيء، إلا في موضوع المملكة. ينتقل بسرعة البرق من كاتبٍ هادئ، إلى مقاتل شرس مدجج بذخائر العشق لأرض الحرمين. لم يتغير يوماً في حربه من أجل التغيير، ولا أعتقد أنه سيتغير، فهو لم يستوحش طريق الحق عندما قل سالكوه قبل سنوات طويلة، ولَم يستهب المسير، رغم الحواجز المنصوبة، عند كل ركن تفتش في ثيابه ودفاتره وحقائبه وتعجز عن محاصرة ما في عقله. خشي المفتشون من إبقائه على حواجزهم حرصاً على عناصرهم من هذا المجادل «المفخخ» بالحجة، والعلم، والشرع، والمنطق، فأكمل السير، لأن ضروراتهم أباحت «محاذيره».
لم يكن تركي دخيلاً على شيء خاض غماره. إذا صادق فهو في صلب الصداقة ومفتاحها ومضمونها، وإذا اختلف مع أحد فهو الحارس لآداب التباين، وإذا أحب فهو العاشق الولهان بإنسان أو أسرة أو أم أو والد أو قصيدة أو وطن أو رمز، وإذا كتب فهو في صلب الجدية والمسؤولية… لا حروف مجانية بين كلماته، ولا استسهال في دعم فكرة.
ينتقل من مكان إلى آخر؟ هو باقٍ كما عرفناه وربما انتقلت الأمكنة إليه… وحتى هذه ليس دخيلاً عليها، بل تسكنه ويسكنها.
* صحافي وكاتب لبناني