كَأَنَّ جميل الحجيلان، وهو يغادر دير الزور، التي وُلد بها، لأبٍ من بريدة بالقصيم، هاجر مع العقيلات، الذين كانوا ينطلقون من نجد، إلى العراق وسوريا وفلسطين ومصر، لتجارة الخيل والإبل، يُرَدِدُ بِهِمَّةٍ تَتَقَاصَرُ دُونَها الهِمَمُ، بيت أبي الطيب المتنبي:
أُرِيدُ مِنْ زَمَنِي ذَا أَنْ يُبَلِّغَنِي…
مَا لَيسَ يَبلُغُهُ مِنْ نَفسِهِ الزَمَنُ
فكان أن تَفَرَّدَ بأولوياتٍ لَمْ يَنَلْهَا سِوَاهُ، فهو أول سعودي يحمل شهادة في القانون. حصل عليها من جامعة فؤاد الأول عام 1950. وأول مترجم للغة الفرنسية عند ملوك بلاده. إذ ترجم للملك المؤسس عبد العزيز، رحمه الله. وأول سفير سعودي لدى الكويت، بعد استقلالها. بل وأول سفير يعين في تاريخ الكويت. وأول سفير لدى ألمانيا الاتحادية، بعد إعادة العلاقات معها، وأول أمين عام سعودي لمجلس التعاون الخليجي، وأول وزير للإعلام بالسعودية، والأول، وربما الوحيد الذي عمل بشكل مباشر مع ملوك بلاده السبعة.
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ممثلة بكلية الإعلام والاتصال، في بادرة وفاء راقية، احتفت بالشيخ الحجيلان، وكرمته قبل أيام. وقد دَلَفَ جميل مئويته الهجرية الأولى، ورافق مسيرة التأسيس والبناء والنماء، منذ 72 عاماً، وهو ارتجل كلمته في الأمسية، فأكد سعادته بالحفاوة به، وبتواضَعَ الكِبَارِ، حيث قال: «لا أعتقد أني أهلٌ للتكريم، فغيري أَجَدَرُ مِنِّي بكثير، لَكِّنَه حَظِّيَ الطَيِّبَ».
دنَوتَ تَوَاضُعَاً وعَلَوْتَ مَجْداً…
فشَأنَاكَ انْحِدَارٌ وارْتِفَاعُ
لَم يَخُضْ الحجيلان، غِمَارَ مُهِمَّةٍ، إلّا تَمَيَّزَ فيها، ولا عَملَ عَمَلاً إِلا أَتقَنَهُ، وما كان النَجَاحُ سَهْلَاً، ولا التأَلُقُ يَسِيْرَاً، وإِنَّمَا تُنَالُ المَعَالِي بالنَصَبَ، وتَعْلُو الرُتَبُ بالجُهدِ والتَعَب.
كما لَازَمَت مراحِلهُ كلها، التحديات الجِسَام، فَتَصَدَّى لها الرَجُل الهُمَام. في الإعلام، وَاجَهَ هَجَمَاتِ النَاصِرِيَّةِ الضَارِيَةِ، فما انساقَ لِتَبَذُلٍ، ممتثلاً توجيهات الفيصل. وكان مؤمناً بضرورة حضور المرأة إعلامياً، فما إن سُمِعَ صوتها في الإذاعة، حتى هاجت الاحتجاجات وماجت، فكيف ببث أغنية، أو عرض مسلسل؟! وقف الحجيلان وقفات صلبة الأفكار، وإن لانَ خِطابه مع المخالف، حتى تجاوز المَركِبُ الرياح العاتية. وفي الكويت، كانت دعاوى عبد الكريم قاسم بتبعية الكويت للعراق قد تعالت، فنَافَحَ عن استقلال الكويت بجلاء وبهاء. وفي فرنسا، كان غزو صدام حسين للكويت يتطلب حِراكاً دبلوماسياً، وحضوراً إعلامياً، وهو ما لا يَتَأَتَّى لغير المُتَوَغِّل في أوساط النُخب، المؤثر في دوائر صنع القرار، فصالَ وجَال، وتَأَلَّقَ بالأقوال والأفعال… وهكذا.
بَصُرتَ بِالراحَةِ الكُبرى فَلَم تَرَها…
تُنَالُ إِلّا عَلى جِسرٍ مِنَ التَعَبِ
كان قَدَرُ جميل أن يرحل والده، تاركاً زوجتين، له منهما ذُرِيّةٌ، هُم إخوته، ولا عائل لهم إلا هُوَ، فتولى المهمة بشهامة، قبل أن يَشِّبَ عن الطوق، وكانَت رعاية أسرته أَولَ دَرسٍ يتعلم منه أن لا مغالبة لصُرُوفِ الدَهر، دون مَشَقَّةٍ، وعَنَاءٍ، وصَبْرٍ.
لَولا المَشَقَّةُ سَادَ النَّاسُ كُلُّهُمُ…
الجُودُ يُفقِرُ وَالإِقدَامُ قَتَّالُ
قَرنٌ من الزمانِ مَضى، وخِصَالُ جَمِيلَ الجميلة لا تَندَرِسُ بالتقادم، ولا تَهْتَزُ بِطول السنين. وعلى رأس هذه السجايا الحميدة، أن أبا عِمادٍ، لا يَعرِفُ للتَعَلُمِ نهايةً، ولا يَتكبر على معرفةٍ، وهذا طبع العلماء، إذ يقول ابن المبارك: «لا يزال المرءُ عَالِمَاً، مَا دَامَ فِي طَلَبِ العِلمِ، فإِذَا ظَنَّ أَنّهُ قد عَلِمَ، فقد بَدَأَ جَهلُهُ».
د. عبد الرحمن الشبيلي، تلميذ جميل، العارف به، قال: «حيثما نَظَرتَ إِلى سِيْرَةِ هذا الفارِسِ الأَبِيَّ، ستجد أَنَّ الفروسيةَ تَمْثُلُ أَمَامَكَ، بِمَا يُجَسِّدُ التَفَرُّدَ والتَمَيُّزَ». وحُسنُ الخُلُقِ، رَأْسُ سَجَايَا الفُرسَانِ، وتَحَلِّي الحجيلان بِدَمَاثَةِ الأخلاقِ، مَوضِعُ إِجماعٍ بَلَغَ الآفاق. يحدثنا الأستاذ حمد القاضي عن هذا الجانب الأنيق في الشيخ جميل، بقوله: «جمع هذا (الإنسان) المحبة والتواضع والصدق والبساطة، إنه حين يهاتفك أو يقابلك يُشعِرُكَ كأنكَ نِدٌّ له، أو زميلٌ معه، مع أن بينك وبين تاريخه وتجربته، سنين ضوئية، إنهم الكبار: يُشعِرُونَ كل من حولهم أنهم كبار». يقول الأستاذ محمد صلاح: «الشيخ جميل، من قبلُ ومن بعدُ، إِنسَانُ تَتَمَثَّلُ في مَسلَكِهِ كُلَّ أخلاقِ الرجالِ، وَوَفَاءُ الكِبَارِ، ويُضْرَبُ في تَعَامُلِهِ وحياتِهِ المَثَلُ تِلوَ المَثَلِ لِمَكَارِمِ الأَخلَاقِ». ويرى الأستاذ سمير عطا الله، أنّكَ: «عبثاً تُحاولُ أن تُغرِيَ جميل الحجيلان بالتنَازُلِ عن ذلك النُبلِ المَطبُوعِ، فإنه قد نَشأَ يَافِعَاً في ظِلالِ المُلوكِ، وتَنَوَّرَ بأخلاقِهِم، ومعهم أَدرَكَ أَنَّ النخيلَ إِنما يَطلُبُ العَلاءَ ليُكثِرَ في العطاء»، فيما يعتبر د. جاسر الحربش: «لُطف المَعشَرِ، وسُمُو الخُلق والتواضع الجَم، ليست سِوى بعض ما يَمتَلِكُهُ الرَجُلُ». أما وزير الخارجية الجزائري السابق، د. أحمد طالب الإبراهيمي، فيقول: «عَرَفتُ جميل الحجيلان، فاكتشفتُ مجموعةَ فضائِلَ: رجلٌ دَمِثُ السيرة، قد قَوِيَ في نفسهِ سُلطانُ الأَخلاقِ، في عالمٍ ضَعُفَت فيه دولة العدلِ والعقلِ، وساَد فيه المالُ والنِفَاقُ». ويُدلِي عميد الصحافيين اللبنانيين، الأستاذ غسان تويني، بشهادته قائلاً: «عرفنا في العمل الدبلوماسي كباراً كثيرين. وتعرفنا في الإعلام العربي الحكومي إلى من هُم على خُلُقٍ، وأُلفَةٍ، ومودةٍ، وَوَعْيٍّ. تابعنا في السياسات العربية، أَهل الرُقِيِّ والمحبةِ والحِرصِ القوميِّ. وعندما أَعرِضُ في ذاكرتي هؤلاء السادة الأعزاء، أرى جميل الحجيلان مُتَقَدِّمَاً السِربَ، أو بالأحرى الأسراب جميعاً». وذَهَبَ د. نزار عبيد مدني، إلى ربط الاسم بالمُسَمَّى، فقال: «إذا أَعْمَلْنا المثل السائد: (إن كُلَّاً له من اسمه نصيب) فإن للشيخ جميل من اسمه النصيب الأوفر، فقد كان جميلاً في خُلُقِهِ، جميلاً في مَظهَرِهِ، جميلاً في تَسَامُحِهِ، جميلاً في أَدَبِهِ وثقَافَتِهِ».
وَمَا هَذِهِ الأَخْلَاقُ إِلا مَوَاهِبٌ…
وإِلا حُظُوظٌ فِي الرِجَالِ تُقَسَّمُ