جنوب أفريقيا دولة جديدة على المعايير والثقافة الإنسانية. نظام التمييز العنصري لم يلغ إلا في 1990. مع ذلك استطاعت أن تبدأ حفلاً كبيراً أدهش كل من تابعه. ولعل الضربة الكبرى التي عكسها هذا الاحتفال العجز العربي في التفوّق على الإبداع الجنوب أفريقي في مجال التأسيس لبنية تحتية رياضية كاملة في فترة وجيزة. واطلعت على إيميل يتحدث عن أن تكلفة كل الملاعب التي خصصت لمباريات كأس العالم، تعادل قيمة ملعب واحد في دولة عربية ينتشر فيها الفساد. وهذا يعود في نظري إلى تكوّن ثقافة متكاملة ومترابطة، وإلى استفادة جنوب أفريقيا من المدّ الحضاري الغربي. هذا مع أن الهوية الجنوب أفريقية حاضرة وواضحة في مجريات الاحتفال، في الرقصات والأغاني. حتى شاكيرا انصاعت لثقافة الرقص الأفريقي واستفادت منه. ولعل إرادة الخروج من نفق التاريخ المرعب الذي نراه واضحاً في جنوب أفريقيا يكفيها لأن تطمح إلى تأسيس ثقافة كروية تتوافق ومعطيات الحضارة والتمدن السائدة عالمياً كما هو الحال في أوروبا. أوروبا القارة الأكثر تقدماً في تأسيس البنى التحتية الرياضية، والأكثر تقدماً -مع الأرجنتين والبرازيل- في الحفاظ على الحضور الرياضي الشيّق والدائم. وهو تقدم لم يأت عبثاً أو اعتباطاً. يَعتبر -مثلاً- العالم الرياضي الروسي “ماتفيف” أن “التحليلات الإحصائية الاجتماعية تؤكد أن الإنجازات الرياضية الأوروبية -باعتبارها أرقى الإنجازات الرياضية- ترتبط ارتباطاً كبيراً بمؤشرات الوجود الاجتماعي للإنسان مثل الدخل القومي ومتوسط دخل الفرد، لأن الرياضة تحتاج إلى تسهيلات وأموال للصرف عليها. بمعنى أن الرياضة لا يمكن أن تتطور في ظلّ مجتمع مأزوم حضارياً. حتى في البرازيل والأرجنتين هناك تألق على مستوى المنتخبات والفرق، لكن التألق الحقيقي يوجد في أوروبا حيث إن متطلبات وشروط إيجاد الإنسان الحضاري متوفرة، لهذا تتألق المشاهد الرياضية في أوروبا، بدءاً من الجمهور ومشاهد الحياة الآسرة التي نشاهدها في المدرجات. هذا فضلاً عن اللعب الخلاّب والروح الرياضية العالية التي نراها في الفرد الأوروبي رياضياً، والوعي الحضاري بالمعنى المدني للرياضة. من أعظم ما يمكن أن تعكسه الرياضة زرع بذور التواصل بين الحضارات والمجتمعات. وتعزز المشاعر الإيجابية تجاه الآخرين، يقول أمين الخولي في كتابه المميز “الرياضة والمجتمع”: “وكثيراً ما وصفت الرياضة على أنها متنفس آمن لدوافع العدوانية الناتجة عن عوامل كالإحباط واليأس والفشل. الرياضة علاج اجتماعي ناجح ضد عوامل الفشل والإحباط وهي متنفس مقبول اجتماعياً للتفريغ عن دوافع العدوانية ومشاعر الإحباط. في الرياضة تمتزج سلوكيات التعاون بسلوكيات التنافس، في آن واحد، وهو غالباً ما يحدث في سياقات الحياة الاجتماعية بشكل عام؛ وينظر علم الاجتماع إلى التعاون باعتباره عملية اجتماعية أساسية؛ رغم ما في استخداماته من خلط”. فيما يرى أرنولد أنه “في الألعاب التي تتسم بالتفاعل وجهاً لوجه، مثل كرة القدم أو الهوكي إلخ، سرعان ما تشكل المعايير، حيث من الضروري أن يركز اللاعبون على صفات مثل الحماس والتعاون، الولاء والشرف”. إذن؛ الرياضة -أيها السادة- جزء من المجتمع المدني، يتطور تبعاً لتطوره، ويتقهقر تبعاً لتقهقره. تحتاج المجتمعات إلى مؤسسات ذات جهود متضافرة لغرس قيم الرياضة التي تنعكس إيجاباً، ملّ الناس من رياضة “التصريحات” ومن رياضة “الصحافة الصفراء” التي أزعجت الناس وأصابت آذانهم في مقتل! تركي الدخيل
جميع الحقوق محفوظة 2019