مهما كثرت الألقاب التي تنسب للمرء، فإنها لا تزيده ولا تنقصه، فالإنسان بما يحسن، والشخص بما يتقن. وقد انشغل العلماء، منذ القدم، بالألقاب العلمية وجدواها.
بكر أبوزيد، العالم السعودي، الراحل، (ت 2008)، وضع مصنفاً حول «الألقاب العلمية»، وأطنب في الحديث عن فتنة التعلق بها، والانصراف عن العلم الحقيقي، محذراً منها أيما تحذير.
ثمة نماذج جميلة، تبث التواضع المعرفي، وتساعد عليه، وربما تساعد على التجرد من الزهو الذاتي، أو المجد الوهمي، المبني على لقبٍ ما، وهو بناء واهٍ.
وقد شنّ، الشيخ علي الطنطاوي، (ت1990)، هجوماً كاسحاً على اللاهثين وراء شهادات الدكتوراه، في الجزء الثالث من ذكرياته، وخاصة من يتعلقون بها حد، التزييف العلمي، وشراء الشهادات.
إن ظاهرة شراء الشهادات، دافعها الرئيس، أن يقدم الشاري اسمه بحرف الدال، فهو لا يعتقد أن اسمه يحمل قيمة دون هذا الحرف.
لقد جنت علينا، ظاهرة حرف الدال قبل الاسم، فعاش العالم العربي، موجة من «الدلدلة» المقيتة، لا تبعد كثيراً عن ظاهرة التعلق بالماركات، ولا أجد فرقاً كبيراً، بين من يشتري الدال، ومن يكسو ملبسه بالماركات، فكلاهما يعتقدان أنهما دون ما اشترياه، لا يساويان شيئاً، وأي قيمة لك، تتلاشى، إذا خلعت ثيابك، أو إذا أويت إلى فراشك، وأنت تعلم كذبك!
كلما زادت معارف الإنسان، زهد في الألقاب، وانظر إلى الشيخ الموسوعي، محمد العبودي، يرفض لقب العلامة، والرحالة، مع أن نتاجه العلمي، الراقي والغزير، يؤهله لما هو أكثر. وفي كتاب: (رسائل خفت عليها من الضياع)، ج2، لرجل الدولة الراحل، عبدالعزيز بن عبدالمحسن التويجري، (ت 2007)، كتب علامة الجزيرة، حمد الجاسر، (ت 2000)، إلى التويجري:«إن منزلتك عندي، أجل وأسمى وأعلى، من هذه الألقاب التي ابتذلت، لإسباغها على من ليس يستحقها، ثم هي في الوقت نفسه، من مخلفات دولة أعجمية، لم تدرك أن الله سبحانه وتعالى، ساوى بين المسلمين، وخصهم بلقب واحد وهو لقب الأخوة الإسلامية». وكان الجاسر يقصد، تحديداً، لقب: «معالي».
وها هو الأديب الدبلوماسي، غازي القصيبي، يسخر من الألقاب، في كتابه: (استراحة الخميس):«الألقاب قد تشغل حاملها عن إلحاق الأذى بالناس، وأضرب لكم بعض الأمثلة، الرجل الذي أباد عشرات الملايين في ألمانيا، لم يكن يحمل أي لقب، كان مجرد «فوهرر»، والرجل الذي أباد بدوره عشرات الملايين في أوروبا كان ينفر من الألقاب، كان مجرد «رفيق»»!
ومن يتصفح سير الكبار، في الأدب، والفلسفة، والسياسة، يجد معظمهم ينفر من الألقاب، فثمرة العلم التواضع.
الألماني، نيتشه، (ت1900)، أحد أهم فلاسفة الدنيا، كان يرفض أن يوصف بالفيلسوف. أشهر فلاسفة فرنسا، ميشيل فوكو، (ت1984)، بكل مدوناته المهمة، استفاضت مقولته: «لم أكتب قطّ شيئاً، إلا أوهاماً».
الخلاصة أن الألقاب، لا يمكنها أن تصنع الإنسان، ولا أن تضيف إليه، إضافة حقيقية، إلا إذا كان يستمتع بالتضخم غير الحقيقي، ويصدق كذبة هو صانعها.
التكبر عدو العلم، ومن لم يتواضع للعلم، لن يتجاوز مربع الجهل الأول، فالمعلومة لا تلين إلا لمن تواضع لها، والعاقل من يتقن التعلم من كل شيء، ويصبر على ما قد يصحب السؤال والجواب من صعوبة، فتجربة الخضر مع النبي موسى، كان محورها الأسئلة والأجوبة، وكان درسها الأهم، أن العلم لا يؤتى لغير الصابرين، المقبلين، الحريصين، الراغبين.
وإذا كان العلم أحد هدايا المتواضعين، فالتقوى المعرفية وسيلة نجاة الإنسان من الكبرياء المقيت.
قديماً، سخر شاعرٌ فطن، من المتعالمين المتعالين، فقال: يقولون هذا عندنا غير جائز * فمن أنتمُ حتى يكون لكم عندُ؟!
لو قدمت جاهلاً بأعذب الألقاب العلمية، فلا يمكن أن تمنحه بذلك علماً، ولا أن تصرف عنه جهلاً، ولن ترفعه لمنزلة لا يستحقها… إلا لوقتٍ، لا يتجاوز ما بين قبض أبي حنيفة لرجليه… ثم مدها!
جميع الحقوق محفوظة 2019