“العقد الاجتماعي” كمفهوم مدني، من أهم المرتكزات التي بُنيَت عليها المدنية الأوروبية، وهو مصطلح نضج عبر امتداد التاريخ الإنساني، لكنه درس وتبلور على يد جان جاك روسو، وخلاصة المفهوم: أنه عبارة عن اتفاق مجموعة من الأفراد فيما بينهم لتكوين مجتمع، بناءً على قاعدة الفائدة المتبادلة، وتجنب الإضرار والضيم، مقابل تسليم الفرد لإرادة الجماعة، ممثلة بالسلطة. فهو مفهوم يُرسخ المدنية المعاصرة، البعيدة عن منطق الغابة القديم، الذي صبغ طرق عيش بعض المجتمعات. الدراسات التراثية التي صدرت خلال القرن المنصرم، ركزت على إعادة الاعتبار للمفاهيم المتصلة بالدنيا، بعد أن طغت المفاهيم المتصلة بالدين، الأمر الذي أثّر على مستوى احترام الناس للدنيا، حيث ابتعدوا عن المفاهيم الدنيوية المدنية المتطورة، وإن كانوا منخرطين في صلب مسألة العيش، وبين العيش والحياة فرق كبير. اقتصرت المفاهيم المدنية على إكمال اللحظات الآتية، من دون النظر في الجوانب الجمالية في الحياة، وهذا ربما يعود-كما يقول الجابري- إلى تكون تراث الأمة في أرحام فقهية، الأمر الذي كوّن فهماً فقهياً للحياة، يقوم على الإباحة والتحريم، دون النظر إلى جانب الإضرار بالآخر، المشارك في المجتمع. وتحوّلت الحياة إلى مرحلة استعداد للآخرة، وتحولت حياة الناس إلى حياة قوم يستعدون للموت والرحيل، كما يعبر الجابري نفسه أيضاً في دراساته. يمتاز مفهوم العقد الاجتماعي بكونه المؤثر، ليس على تحديد التنظيم الاجتماعي، وإنما على تحديد التنظيم السياسي. والعقد الاجتماعي لا يقوم على سلب شخصية الفرد لصالح المجتمع كما يعتقد البعض، بل يمتاز هذا المفهوم في كونه يعطي الأفراد استقلاليتهم مع التضحية بشطر من ذلك الاستقلال لصالح المجتمع برمته. فالإنسان ليس معزولاً من حيث هو فرد لا تربطه أي صلة بأقرانه. بل بقدر ما تتكون ذاتيته واستقلاليته، يجنح نحو الالتصاق بالمجتمع، عبر التعاقد والتعامل، أو عبر التسامح والعدل. ووفق العقد الاجتماعي فإن الأفراد على الرغم من تمتعهم بالحرية الذاتية والفردية، يجب أن لا تتجاوز حريتهم العقد الاجتماعي الذي يحتّم على الفرد أن لا يعتدي أو يتجاوز حقوق الآخرين. فالبشر بإقدامهم على تكوين علاقات مع مجتمعهم يضحّون-ولا بد- بقدر يسير من حريتهم الفردية لصالح التجمل أو التعاقد، وهو المنح الأخلاقي لجزء يسير من الذات، بغية تنمية المجتمع واستجابة للعقد الكبير، “العقد الاجتماعي”. يبرهن مفهوم “العقد الاجتماعي” الثريّ بتفاصيله على حقيقة أساسية، وهي أن هناك علاقات كثيرة ومتعددة ترتبط بها الحرية الفردية، فليس صحيحاً أن الحرية الفردية تمنح الفرد الحق في انتهاك حقوق غيره. بل لقد نبع القانون والدستور أساساً من خلال غليان المجتمع وثقافته، والدول التي أباحت زواج المثليين جنسياً مع بعضهم البعض، لا ينطلقون من أفكار أو تيارات، وإنما من غليان اجتماعي وثقافي هي من صميم المجتمع جعلتهم يطالبون بما رأوه حقاً من حقوقهم! لكن الحرية ليست أفكاراً، فالحرية ليست أيديولوجياً، من عناصرها إباحة التزاوج بين الشاذين، بل هي فضاء ومفهوم يتحرك حسب ثقافة كل مجتمع. من المزعج أننا لم نرسخ بعد مفاهيم مدنية تعنى وتحرص على قياس حرية الفرد بما لا يتعارض مع حرية الفرد الآخر، وحاربنا مفاهيم مدنية حديثة، كمفهوم العقد الاجتماعي، خشية من الفردية التي يكفلها ذلك المفهوم لكل شخص، تحت ذريعة متهالكة مفادها: الحرية الفردية تحرض الفرد ضد أخلاق المجتمع! كأن هذا التخلف الموجود في المجتمعات العربية والإسلامية، حمى الفرد من الاعتداء على الفرد الآخر. هذا مع أننا لم نطبق الحريات التي يزعم البعض أنها مجرد انفلات بحيث يُغير الفرد على الإناث، ويقوم بالسرقات والمظالم!
جميع الحقوق محفوظة 2019