اهتزّ العالم على الاستفتاء الذي يقضي بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، مؤشرات كثيرة يطرحها المحللون، بدءاً من الحديث عن تفكك الاتحاد الأوروبي، وانهيار الدور البريطاني في العالم، وليس انتهاءً عند تراجع التأثير الغربي المركزي، هذا مع اتساع رقعة الأحزاب اليمينية، والاتجاه نحو الانغلاق بدلاً من الانفتاح.
الآثار عدة، فبعد الخروج من الاتحاد الأوروبي سيتوجب على البريطانيين الحصول على تأشيرة دخول لزيارة دول الاتحاد الـ 27، كما أن على الأسر البريطانية إنفاق مال أكثر من السابق لقضاء عطلهم في القارة العجوز، ليس فقط بسبب تدهور قيمة الجنيه الاسترليني أمام اليورو ما سيقلص من مقدرتهم الشرائية، بل أيضاً لأن الاتفاقيات الأوروبية تتيح لأي شركة طيران أوروبية العمل في المجال الجوي الأوروبي دون قيود على مستوى الوتيرة أو الأسعار.
وظيفياً بالنسبة إلى البريطانيين المقيمين في أوروبا، ستتسبب مغادرة الاتحاد الأوروبي بمشكلات كثيرة أيضاً لـ 1.3 مليون بريطاني يعيشون في دول أوروبية أخرى، بينها خصوصاً إسبانيا (319 ألفاً)، وإيرلندا (249 ألفاً) وفرنسا (171 ألفاً)، وألمانيا (100 ألف)، بينما يرى المتقاعدون البريطانيون عائداتهم تنهار مثل الثلج تحت الشمس، بسبب تدهور سعر صرف الجنيه الاسترليني. هذا فضلاً عن مشكلات ستعود إلى الحياة مثل الحدود مع إسبانيا، بينما تتفاقم أيضاً على إثر هذا الخروج مشكلات التأمين على المرض.
هذه آثار ستتم على المدى القريب، لكن هناك من يتحدث عن كون هذا القرار التاريخي سيعود بالنفع الآجل على المجتمع البريطاني، مع أن الإحصائيات تتحدث عن غضب الشباب الذين تبلغ أعمارهم بحدود الثامنة عشرة من نتيجة الاستفتاء!
الدرس المستفاد عربياً من هذا الحدث، أن الديمقراطية في بلدٍ عريق مثل بريطانيا ليست طارئة، ولم يتم تركيبها بشكلٍ سريع ومفاجئ، بل تعرف من قرونٍ مضت على تأسيس النظرية السياسية، منذ توماس هوبز مروراً بجون لوك وصولاً إلى كارل بوبر وبراتراند راسل، أياً كان التصويت أو الاستفتاء فإن الإنضاج للعملية الديمقراطية كان قديماً وأسس على بنيةٍ عميقة غائرة لا يمكنها أن تتزعزع، لنقرأ تصريح كاميرون: «قرر الشعب البريطاني خياره، ومن الضروري ليس فقط احترام ذلك القرار، بل على الطرف الخاسر بما فيه أنا المساعدة في إنجاحه».
بالتأكيد، خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، هو أول مسمار في نعش الاتحاد الأوروبي أو اليورو، وسيكون بداية الربيع الأوروبي، في العملية الديمقراطية ليس هناك صواب أو خطأ، هناك إمكانات واحتمالات وتحوّلات، وأصوات لها قناعات محددة ترشح كفّة برنامجٍ من البرامج، وهذا الذي حصل ببريطانيا، فالدولة الدستورية الديمقراطية من مقوّمات بقائها قدرة أهلها على استشعار الخطر، والفيلسوف الألماني يورغن هابرماس (1929- ) يثير ذلك بقوله: «إن الطبيعة العلمانية للدولة الدستورية الديمقراطية لا تتضمن أي ضعفٍ داخلي في نظامها السياسي يمكنه أن يهدد من وجهة نظرٍ عقلية أو عاطفية استقرارها الخاص، لكننا نستثني العوامل الخارجية لهذا الاستقرار».
هناك مطالبات بالاستفتاء على أكثر من صعيد، والزعيم الدرزي وليد جنبلاط المولع بالتاريخ يتوقّع انتهاء أوروبا التي نعرفها بعد الحرب العالمية الثانية لترسم لنفسها نموذجاً آخر يختلف تمام الاختلاف، وربما توضّح الأيام وهي حبلى نتائج هذا التغيّر.
قد يكون الانكفاء شعار العالم في العقود المقبلة، لتتحول إلى كيانات متقاربة جداً ومتباعدة جداً، والنتائج التي أشرت إليها في بدء المقال وبخاصةٍ ما يتعلق بالتأشيرات للبريطانيين توضّح هذا التصور، فمهما كانت كلفة الانعزال أكبر، غير أنها مرغوبة بشكلٍ أكثر.
سيرورة التاريخ توضح أن ما يجري في أوروبا مؤشر على تحوّل بشري دائماً، يتعلق بالرؤية للعالم وتغيراته، وبخاصةٍ في ظلّ أزماتٍ وحشية، إنها بداية لتاريخ آخر جديد، غير الذي نعرف.