ألتفتُ كثيراً جهة العراق، وأعلم أني لستُ وحدي من ينظر بعين المحبة لأرض الرافدين.
بغداد مدينة الشهقات الثلاث؛ شهقة حين تمر بعين قارئ وسط كتاب، وشهقة حين تمر على الشاشة خبراً عاجلاً باللون الأحمر، وشهقة كلما جاء من جهاتها صديق قديم سالماً.
كم من الأصدقاء الذين أحبهم، ويأكلني القلق عليهم، حين يهزمهم الشوق، فيمرّون مودعين، ويعودون ولا يشبه عودتهم أحد حين يقبلون. لكن البارحة لم يودعني مسافر من بغداد، وإنما بتّ وحالي كحال أبي الطيب، حين فجع بأخت سيف الدولة…
طوى الجزيرة حتى جاءني خبرٌ
فزعتُ فيه بآمالي إلى الكذبِ
وما زالت بغداد تحزنني، يوماً بعد يوم، فمدينة التحضر والتاريخ تُفَرِّط في أبنائها، بالحرب تارة، وعبر المرض أحياناً، وساعات بتهدم مبانيها، وجفاف أنهارها. والحزن موصول، حتى على آثارها، التي تتخطفها الأمم، كي تزيِّن بتاريخ العراق العظيم، جدران متاحفها.
لكن موت الشعراء، يوجعني أكثر، فكل شاعر – بالفطرة – مفطوم في بغداد، وكل خارج منها باكٍ عليها، فقد أحزن فراقها أبا العلاء، واقترن اسم أبي الطيب بعاصمة العراقيين، وبلغ الوفاء بالبغداديين، لما عشقوا المتنبي، أن يبنوا له بوسط مدينتهم ما يخلده، فوق خلوده. وببغداد ترنم نزار – فبغداد اسم وصفة وفعل – واسألوا كاظم الساهر، إن شئتم!
عشق نزار للعراقيين، وبغداد، وبلقيس، قديم… معتق…
عيناكِ يا بغداد منذ طفولتي
شمسانِ نائمتانِ في أهدابي
لا تنكري وجهي فأنت حبيبتي
وورودُ مائدتي وكأسُ شرابي
بغداد جئتكِ كالسفينة متعباً
أخفي جراحاتي وراءَ ثيابي
ليت شعري يا نزار، لو أن السفن المتعبة ببغداد، بقيت – كما تذكر – تُخفي جراحها وراء الثياب.
قبل شهر يا نزار، غرق مركب بدجلة، ليهبط الحزن على 100 بيت في الموصل. لم يكن المركب وحيداً يا نزار. في 2013، غرق مطعم لبناني، على ظهر سفينة بدجلة الحزين، الذي ابتلع 5 عراقيين.
لم يقف رصاص الطرقات، كي ترتاح شوارع بغداد الجميلة، حتى جفّ ماء النهر، ولم يبقَ يا نزار، في بغداد، من الأخبار السعيدة الكثير.
توفي عريان السيد خلف، مطلع العام، والبارحة يا نزار فُجعتُ بـخضَيِّر هادي.
خضَيِّر الذي أذكره، كما أحفظ قصائدك… وجه الشتات العراقي، الشاعر الذي كان يحسن الجمع، خاصة حين يبدأ بالخمسة وينتهي بالعشرة.
مات خضَيِّر هادي يا نزار! لم يمت غِيلة، كما كانت تهدده رسائل هاتفه النقال. الحمد لله أنه لم يمت في الغربة، فتراب العراق يحن لمثل عظامه الوفية.
رحل خضَيِّر، الذي أقسم على نفسه، ألا يبكي أمامي، في «إضاءات»، وهأنذا أبكيه، وأبكي عبد الرزاق عبد الواحد، وعريان السيد خلف، وأُعَزي أهلهم وأحبابهم، وأعزي من فقد عزيزاً على ظهر العبّارة، التي لفرط حمولتها، لم يحتملها صبر دجلة، الواقف منذ الأزل.
مات الشاعر الذي لم يقف مع أحد، كما قال لي، بعظمة لسانه.
رغم تناقضاته – رحمه الله – فإنه كان من الناس الطيبين.
كان حاضر الدمعة، حتى كأنك تنتظر دمعته قبل أبياته، حزيناً حزن العراقيين، الذي أصبح مبرراً، أكثر في المنافي. شكا الغربة، وناجى الوطن دوماً، والغريب أن خضَيِّر، مثل أغلب الشعراء، يختزل العراق في بغداد…
يا هوى بغداد أعطيني نسمة
ليش غيري يشمك وأنا أغار؟!
كان يطلب من أعدائه، ألا يخيفوه، برسائل التنمر والتهديد، فهو شاعر – جبان ككل الشعراء، على حد تعبيره – قال عن مهدديه؛ ليهددوني بالحب يا تركي!
الله يا خضَيِّر، ويا ضحكة خضَيِّر، ويا دمعة خضَيِّر، التي بخل بها، رغم أنها جادت هطولاً في «إضاءات».
لم يقتله الذين حذرني منهم كثيراً، فقد علمته التجربة سوء الظن بالناس…
الناس كفوف عدها
ويمها طابوق
قتلته الأخبار، التي حذره منها الأطباء، فلم يرخِ أذناً لتحذير.
خضَيِّر كان مريضاً بالوطن. قال؛ الموت في الغربة يا تركي مذلة!
كيف لي أن أنسى شتاته، الذي جعله يرسل التحايا، لكل بلد استقبل اللاجئين العراقيين، وكيف لي أن أنسى مشهد تقليبه العبي (جمع عباءة)، فبكى حين لم يجدْ بينهن عباءة أمه، التي كان يستدل عليها من عبق رائحتها…
من تمشي العطر يمشي وراها
كان مرهفاً حين يذكر العراقي، وكأنه يتوضأ بالدمع إذا عنَّ له بنو جلدته. كان مستعداً أن يلفَّ نفسه سيجارة يدخنها العراق إن رغب، عربياً، غاضباً، حزيناً، لا يستطيع قول الشعر، من دون أن يُمَسرِح يديه بحركات متواصلة، ويُسكِتَ الجمهور بتفاعل جسده. ذكياً، يعرف ما يريده الجمهور. صاحب خيالٍ، يُقرِّب الصورة باللحن والإيقاع. لا جدال في ذلك، فهو أول من حوّل قصيدة إلى فيديو كليب، وأدخلها عالم الليل، مثل فناني الأحياء الخلفية. عاتبه كثيرون، لكنهم اعترفوا جميعاً لخضَيِّر أنه ابن الأرض، والكلمة العامية، سريع البديهة، يحسن البوذيات، ويرتجل على الشاشة ما تجود به قريحته فوراً!
سطّر بالدمع، قبل الحبر، نزف قلبه، خائفاً بصدق من الموت، هارباً إليه في الخيال. جرياً على عادة الشعراء، الذين يقولون ما لا يفعلون…
أنت بس تلمسني
أموت بين يديك
وعبثاً ساءل خضَيِّر قلبه، مراراً، سراً وجهاراً: «يا قلب… أريدك قوي»، لكن الأخبار القادمة من أربيل، تقول إن الجلطة الأخيرة، كانت العاشرة.
قطعاً لم يكن خبر عبّارة دجلة الغارقة، ولا تفجير في منطقة مكتظة، يحول الإنسانية إلى شظايا أجساد، لكن قلب خضَيِّر، قرر قديماً، الوفاء لخضَيِّر.
كانت العلة، هي العراق الذي اختُطف، ووُشِحَ بالسواد، ولم يبقَ من نخلاته الباسقات، سوى ظلٍ نحيلٍ!
شرب خضَيِّر من قلوب العراقيين الطيبة، برد المنافي، التي قال عنها: «والثلج خضر فوق يدي»؛ حيث كان يطلب لرئته هواءً ساخناً من بغداد!
الشاعر الراحل، نحت الحزن في أجساد الشعب المرهف، والطيب جداً، أينما التقيته.
ولأنه انتظر الموت، بين احتمالات ثلاثة؛ طلقة، أو تفجير، أو اغتيال على الرصيف، مرعوباً أن يموت في الغربة، خذل الموت خضَيِّر، في الأولى، وأبقى له الأمنية التي كررها عليّ كثيراً، بلهجته الفاتنة: «أريد أموت بين أهلي يا تركي»!
أليس طعم الموت واحداً، كما قال صديقك أبو الطيب؟!
سحرني الحضور الذهني لخضير، وأدبه في الاختلاف، رحمه الله، وكنت أودُّ الاتصال به، بعد أن شاهدت مرثيته العالية، في معاذ الكساسبة، رحمه الله، حين طالب الماء بالنزول على النار، حتى أبكي الحاضرين، بعمان…
يا رذاذ الماي انزل
حتى هاي النار ما تحرق معاذ
بالقفص كالجبل واقف
يدعو رب العالمين
وجه مكشوف على ربه
والبقية ملثمين
امتلأ العالم المجنون بالملثمين، الذين يفجرون المساجد، ويفخخون الكنائس ويفجرون الآمنين، يا خضَيِّر هادي. لم يعد ثمة شيء هادي في هذا العالم يا خضَيِّر. نَمْ آمناً في بغداد، التي تلد الشعراء، كما يبقي العطر في عباءة أمك!