لم أتصور أنني حينما أقابل الفيلسوف خليل رامز سركيس سأجدني أمام معلّم، لا يفتأ يعلمنا الحياة والحب والعطف والإنسانية، ويعلمنا الجدية في التعلم والجدية في العمل. قابلتُه في لندن ينزف شباباً وحيوية تهزم تجاعيد الشيخوخة، فهو يصف نفسه قائلاً:” مع أني أجاور التسعين أو أكاد. ولئن عمّم رأسي المشيب، فما ذلك سوى عرض خارجي، أما الداخلي الصميم، فهو، نسبة إلى نبض الساعة التي أنا فيها، وثبُ حركة في همة شباب”.
قال لي إنه بقي لسنواتٍ خمس يترجم كتاب “الاعترافات” لجان جاك روسو يقضي على ترجمته معظم أيام الأسبوع، سألته كيف فعلت ذلك؟ فأجاب: كان عملاً عسكرياً خمسة أيام في الأسبوع أفتتح العمل في السابعة والنصف صباحاً حتى الثانية عشرة والنصف ظهراً ثم من الثانية والنصف ظهراً إلى الخامسة والنصف مساء، واليوم السادس أقضيه في مراجعة ما ترجمت خلال خمسة أيام.
عندما تتأمل خمس سنوات تمتلئ جدية من أجل ترجمة كتاب واحد، تعلم أن التميز لا يأتي مصادفةً، وأن الإتقان لا يهبط بالباراشوت، لهذا يعتبر المتخصصون ترجمة أستاذنا سركيس ممتازة نادرة. فأسلوبه الأدبي أخّاذ آسر ، لهذا أحببت أن أعرف القارئ بخليل رامز سركيس في هذا المقال.
يقول عن نفسه: “وُلدتُ سنة 1921 في بيروت، في حي زقاق البلاط وشارع خليل سركيس. لكن مسقط رأسي الوراثي هو عالَم المطبعة ومشتقاتها: المطبعة الأدبية التي أسسها جدي خليل سنة 1866”. وما زال الورق والحبر والقلم عشقه، ويعبر أكثر صراحةً: “الكتابة، عندي، مثل التنفس، فلو انقطعت عنها لاختنقتُ. من أجل الكتابة تخليت عن الكثير الكثير، فلم يكد يعوّقني عنها شيء. الكتابة حياتي، صَلاتي، محررتي من تسلط الدهر غابراً وحاضراً إلى مستقبل أيام. هذه الثلاثية الزمنية أحاول أن أبني على معطياتها كياناً لي متحاور العناصر في تجاوب لها ونتائج”.
عندما تسأل خليل رامز سركيس عن ماهية الكتابة عنده، يجيب: “الكتابة، عندي، ليست هواية على الإطلاق، ولكن الكتابة هويتي، ولولاها لانتهيت إلى حافة الهاوية، فاضطربتُ في أزمات الخيبة والتشتت والضياع. أما هوايتي فهي الموسيقى والمشي”.
الكتاب عنده ليس هو الورق الهامشي، بل الذي يسافر بعقلك:” أحب الكتب إليّ الكتاب الذي يعلمني القراءة – القراءة بمعناها الكياني المتفوِّق وبمداها الإنساني المتعمِّق في روح موضوعها وفي جسده أصلاً وفروعاً. هنا القراءة أُختُ الكتابة سموّاً وقِيم عطاء”.
قال أبو عبدالله غفر الله له: وجدتُ في أستاذي خليل رامز سركيس منابع بل محيطات من التعاليم والحكم والشذرات التي جاءت عصارةً لعمره ولمسيرته في الحياة، جاءت بعد أن عاش الحرية الحق التي تعطي الإنسان فرصة أن يكون مستقلاً ومسؤولاً، يقول:”الحرية، في عصمة نظامها، هي حق واجب الوجود. مَن حُرمها حُرم نعمة من أكرم نِعم الحياة”.
لنعد إلى خليل رامز سركيس نقرأ مؤلفاته ونستفد منها في مسيرتنا في العلم والعمل وفي معترك الحياة.