الصحافي البركان.. نصير البسطاء
كانت الثامنة مساءً، موعداً للأحباب بالسعودية، قبل ظهور التلفاز.
يكفي أن يقولَ أحَدُهُم: «موعدي الساعة… ثمان»، حتى يبتسم الحاضرون، ورُبَّ تبسم يغني عن طول حديث!
ومنذ تشكل الدولة في السعودية، كانت الصحافة، ولا تزال، مكاناً للشكوى، سواءً كان المشتكى عليه دائرة حكومية، أو طريقاً تأخر المقاول في تسليمه، أو حتى معلمة تطلب نقل عملها، لمدينة عائلتها، أو غير ذلك…
يحدث أن تكون المشكلة، مما عَمّ بها البلوى، وتكاثر منها المتضررون… فمن يستطيع أن يكون قناةً لصوت الشاكي؟! حتى تحفظ الحقوق، ويقوم المُكَلّفُ بأداءِ الواجِبِ، حتّى لا يَضِيْقَ الشاكي بشكواه، وكم من ضيقٍ وَلَّدَ انفِجَاراً!، لا أحد يستلذ بالشكوى!، لا الشاكي -بطبيعة الحال- ولا المسؤُول، الذي سيؤتى به على رؤوس الأشهاد.
صاحبنا، الذي نروي شيئاً من سِيرَتِهِ اليوم، استطاعَ باقتدار، احتكارَ ساعتين، من ساعاتِ الذُروة، ليحفِر بها اسمه، في ذاكرة المواطن، وخصوصاً أصحاب الحاجات، وكان أحد أهم قنوات نقل الشكوى، وتعبير المواطنِ، عن احتجاجه، على سوء خدمة هنا، أو عدم القيام بِواجِبِهِ هناك.
إنه الصحافي السعودي، الوحيد، الذي مارسَ أنواعَ العمل الإِعلامِي كلها، من صحافةٍ يوميةٍ، إلى مجلاتٍ أسبوعيةٍ، مُروراً بالإذاعةِ، وصحافةِ الإنترنت، فالتلفزيون… والفارقُ، أنَّ صاحبنا اليوم، وهو الأستاذ، داود بن عبدالعزيز الشريان، يَتَفَوّقُ على غَيرِهِ من الصحافيين السعوديين، وربما العرب، بأنه مَرّ على هذه الوسائل، رَئِيساً، ومهنياً ممارساً، فَأدارَ العملَ الإعلامي في الصحف، والمجلات، ومواقع الإنترنت، وفي الإذاعة، والتلفزيون،… وَقَدّم البرامج التلفزيونية، والإذاعية، وكَتَب المقال اليومي، والأسبوعي، وأجرى اللقاء الصحافي، واستقصى عبر التحقيق المصور، والمكتوب، وجاء بالخبرِ، وحَرَّرَهُ، وكتبَ القِصَةَ الإخبارِيَةَ الصِحافية. فمن يقارع داودَ في كل ذلك؟!
لم أكن في السعودية حينها، لذلك لستُ من جمهور «الثانية مع داود»؛ البرنامج الإذاعي، الذي قَدّمَه الشَريانُ سنواتٍ، على أثير mbcFM، وكانَ الناس يستمعونَ إليه، وهم عائِدونَ مِن أعمالِهم، فيبقون متسمرين في سياراتِهم تحتَ لهيبِ الشمسِ، وقد وصلوا بيوتهم، لإكمال الإنصاتِ للبرنامج الشهير.
وليسَ داوُد الشريان، عندي هو داود الثامنة، البرنامج التليفزيوني، الذي أطبق الآفاق، فعرفته الجَدّاتُ، والحَفِيَداتُ… الآباءُ والأبناءُ، الصِغَارُ والكِبَارُ، الأغنياءُ ومُتَوسِطو الدَخل، ومحدودوه، وحَقَقَ عَبْرَ شاشة mbc نِسَبَ مشاهداتٍ تاريخية، لا سابق لها، في المنطقة!
لكنّ داوُد، بالنسبة لي، هو قائدُ الفريقِ الصحافي، الذيْ يغضبُ عليك، كبركانٍ متفجرٍ حِمَمَاً، إن تكاسَلتَ في عملك، لكنه يُكافِئُكَ إن تَمَيّزتَ وأبدعت. داود، الذي يشرعُ الأبوابَ للمُجتَهِدِينَ، ويُحَوِلُهُم نُجُوماً، فَرِحاً بِبُروزِهِم، لا وَجِلاً من مُنَافَسَتِهِم!
ليس داودُ، هو الفتى المتحدِرُ من أُسرَةٍ من أُسَرِ العقيلات، حيث كان جَدّه وأبوه يُتَاجِرانَ في بيعِ الجِمَالِ، بنقلها من أكبرِ سوقٍ للإبل في العالم، ببريدة، إلى الشام وفلسطين.
وليس داود، هو الفتى الذي عانى مرارة اليُتمِ صغيراً، فقَرَرَ أن يَكونَ صَوتاً، لِكُلِ من يُعانِي، وها هي سِيرَتُهُ للمُتَتَبِعِ، تَشْرَحُ صَوتَهُ الحاد،َ في إِنكارِ الظُلمِ، وانتِصَاره للمرأةِ، يومَ لم ينتَبِه لِحَاجَتِها أحد… رُبَما لأنَه، إذ فَقَدَ أَبَاهُ، اقتَرَبَ مِن جَدّتِهِ، حتى صارَ عُكَازَها الذي تَتَكِئُ عليه!
يعرفُ كل من زَامَلَ، الشريان، أو عمل تحت إدارته، أنه صاحب حضور قديم، ويَدٍ طُولَى، على كثيرين، وإن لم يمدَحهُ من الصحافيين، حين رُشِّحَ لإدارة جريدةِ (الحياة) بالسعودية، سوى الأستاذ تركي الناصر السديري، الصحافي الرياضي، والقاص المثقف، عندَ الأمير خالد بن سلطان، ناشرُ الجريدة، الذي كان يستطلعُ آراءَ أهل المهنة، في الرجلِ الذي سَيُولِيهِ مهمة تطوير الجريدة، وسيختاره عضواً في مجلس إدارتِها، لأكثر من عقدٍ من الزمان.
حِمَمٌ بُركَانِيَةٌ.. تحمي فريقها !
السَجَيّة التي عَرَفتُها، ولا زِلتُ أذكُرُها في الشريان، أَنَهُ من بينِ نَفَرٍ قليلٍ من الرؤساء، إذا ما أخطأ صِحَافيٌ تحت إدارَتِهِ، بتجاوزِ خطٍ أحمرٍ، أو تَسَبَبَ في غَضَبِ جِهَةٍ مسؤولةٍ، ضَرَبَ بَكَفِهِ على صَدْرِهِ، وقال: أنا المسؤولُ الوحيدُ عن الخطأ، لقد مَرّرَتُ المادَةَ المغضوبِ عليها، بوضع اسمِ هذا الصِحافيِّ عَلَيها، وإلا فلا يَتَحَمَلُ وِزرَها غَيرِي!
شَجَاعَةُ داود على الشَاشَةِ، هي شجَاعَتُهُ في الدفاع عن فَرِيقِهِ.
غَضَبُ دَاوُد صَبَاحاً، من مُحَرِرٍ لم يُؤَدِ مَهَمَتُه كما يَجِبُ، لدرجةٍ تجعلُ المحررَ، يَظُنُ أنّهُ في قائمةِ الشريان السوداءَ، لا تمنعُ داودَ من الاستبسالِ، في حمايةِ ذاتِ الصحافي، الذي اجتَهَدَ، فَوَلَغَ في المحذورِ، ولو كانَ ثَمنُ هذا الموقف الشَرَيَانِي… خسارَتُهُ مَنصِبَهُ!
ومن تابع برامج داود، يعرفُ كيفَ يكونُ الشريانُ خَصماً، أو مُحامياً، مُنافِحاً، عن أي قَضِيةٍ، مُدافِعاً عن أيِّ إنسانٍ… يتساوى في ذلكَ صوتُه، في الثانيةِ ظُهراً، وملامِحُهُ، ولِسانُهُ، وقَلبُهُ السعودي، الخالص، المخلص، في الثامنةِ مساءً، أو مع داود، أو في «ما حنا بساكتين»، وإن سكتنا… بعد فترةٍ بسيطة!
رُبَما كانَ الشوكُ، الذي يَحفُ طَريقَ الشريان الوَعِرِ، سبباً في صناعة صِراعِ الأُستاذِ، من أَجلِ الصعودِ والنجاحِ.
15 أغسطس (آب) 1954، كانَ موعِدَ قُدومِ موهبةٍ فريدةٍ، يومَ وُلِدَ داود الشريان، في مستشفى الشميسي بالرياض، لأبٍ جَمَّالٍ، يُساعِدُ والِدَهُ (جَدُّ داودَ)…
قد تُصيبُ الأقدارُ الجِمال بآفةٍ قاتلة، لكن الآفة أصابت الأسرة كلها، بوفاة الجدِّ، إذ شكلت كسراً للعائلةِ، ونُقطَةَ تَحَوُلٍ في تاريخها.
وإن تَعْجَب، فَعَجَبٌ أن العقيلاتَ، يَفتَخِرُونَ بِكسرَاتِهِم في التجارةِ (خسارةُ التاجر كل ما يَملِكُ، حتى الإفلاسَ، أو ما دونَهُ)، بل ويُؤرِّخُونَ بِهَا، فلا شَيء يصْنَعُ التَمَيُّزَ مِثلها، كما يقولون!
إثر وفاة الجَدّ، اضطُرَّ والِدُ داود أن ينتقل من بُريدةَ إلى الرياض، بَحَثاً عن وَظِيفة، فَعَمِلَ حارسَ مستودعٍ للبلدية، وتَجاوز أزمةَ العائلةِ بهذه الوظيفة، لكن الوالدَ فارقَ الحياة في طفولةِ داود المبكرة، وضُرِبِت الأسرةُ في مقتلٍ مُجَدَدًا.
وعلى عادة معظم العوائل النجدية، تزوج عمّه بوالدته، فعاش مع إخوانه، وأخواته، وأبناء عمه، ووالدته، وزوجَة عَمّهِ، تحت سقفِ بيتٍ مُتآلفٍ، يَقتاتُ على البساطَةِ، وينتعشُ طِيبَةً.
عَوّضَ داود غياب أبيهِ، بالتصاقِه بجَدّتِهِ، السيدة حصة المسفر، رحمها الله، وكانت سيدة ذات رأي مُحَتَرمٍ، ومَكَانةٍ مُقدَرةٍ، في مجتمعها، عند كل من يعرفها، لا في عائلتها فقط. صَنَعَ قُرْبُ الفَتى الصَغِير، من الجَدّةِ الحَكِيمةِ، قَوِيَة الشَخصِيَةِ، مَصدَرَ إلهامٍ، وتأَثُر،ٍ بِصِفَاتِها من جهةٍ، وسبَبَ سعادةٍ، وبَهجةٍ، تُعَوِّض ُشيئاً من مرارةِ اليُتْمِ.
يتحدَثُ الشريانُ، عن جَدّتِه كالعُشاقِ، شارِحاً كيف كان «يَمْرَخُ»، أيَ يَدهَنُ، ظَهرَهَا، بالقُرُنفُلِ المْطحُونِ، مُهدِئاً من آلامِها، علها تفوزُ بنومٍ هانئٍ، لا يُنَغِصُهُ وَخْزٌ.
هذا الجَو العائلي الحميمي، منحَ داود عاطفةً جيّاشةً، ومحبةَ عائِلتِهِ وأولادِهِ، فالحياةُ المُرهَقة، بأكلافِها الباهِظَة، تَجعلُ رُؤيَةَ الإنسانِ أَصفَى وأنقى، وأزعُمُ أن لدى داودَ، عاطفةً، وطيبةً، تَخْفَى على غَيْرِ المُتَبَصِرِ، وكثيرًا ما تجلت ببرامِجِهِ التليفزيونية، فمرةً يُقَبِّلُ رأسَ مواطنٍ، وتارةً يَجمَعُ أُماً بابنها الذي لم تَرَه، وثالثةً يُنَافِحُ عن العاطِلين. ولا يَغُرَنَك، ارتِفاع صَوْتِهِ في نقاشِ ضيفٍ ما، فدمعَتُهُ قريبةٌ، لا تَستأذِن أحداً لتهطلَ، تأثُراً بِموقِفٍ إنسانيٍ، أو رحمةً ورأفةً لضعيف!
تَخَرجَ داود من جامعة الملك سعود، قسم الصحافة، في 1977، ووافق موجَةَ ابتعاث الحكومة السعودية أبناءها للدراسة في الخارج، وبخاصة إلى الولايات المتحدة، فلم يَبْقَ من مجايليهِ، من لم يُبتعَث، فحصلَ على بِعثَةٍ، من إحدى المؤسساتِ العسكرية (المصانع الحربية بالخرج)، وربما لو أكملَ المشوار، عاد برتبةٍ عسكريةٍ، ولانصَرَفَ الضَبطُ من الشاشةِ إلى الميدان!
الدكتور عبدالله المدني، الذي أَرَّخَ لداود، ضمن كتاباتٍ ثَرِيّةٍ، لسيَرِ عَشرَاتِ النُّخَبِ الخليجيةِ، يقولُ عن هذه المرحلة: «سَافَرَ الشريان بالفعل إلى «أوكلاهوما سيتي» بعدما أقنع وَالِدَته المُعارِضَة لفِكرةِ تَغَرُبِهِ، بعيداً عن الأهل والوطن، لَكِنَ إقامَتَهُ هناك لم تَطُل، حيث أقنع المُشرِفَ على الطلبةِ السعوديينَ المُبتعثين: عبدالعزيز المنقور، بأَنَّهُ لا يَصْلُحُ للحياةِ العَسكَرِيّةِ، وأن طُموحَاتِهِ، هي دراسَةُ المَسْرَحِ، وأنَّ دافِعَهُ للقدومِ إلى أَمريكا هو الالتقاءُ بأصدقائِهِ في الثانويةِ فَحسب».
اختار صاحبنا، الاهتمامَ بـ«الآدابِ»، ولم يَكسِر رغبةَ والدَتهُ في البقاءِ بِجوارها، فعادَ إلى السعوديةِ، ولم يُكمِل مشروعَ الابتعاثِ، غيرَ أنّهُ بَعد قُرَابَةِ عِقدينِ، وفي مُنتَصفِ الثمانيناتِ، سافر إلى الولايات المتحدة، ودرسَ فيها اللغةَ الإنجليزية، والصِحافَةَ.
المسرح.. الذي يجلبه للصحافة!
منذ دراسته الجامعية، انفتحَ الشريانُ على مجالٍ رحبٍ، إذ دَخَلَ بِقَدمَيهِ إلى الآدابِ، والمسرحِ، والصِحَافةِ، فمنَحَهُ التشعُبُ سَعَة الأُفُقِ، والقُدرَةَ على التَمحِيصِ. وَجَدَ نفسه في المسرحِ، فتدرب على يدِ المسرحي المصري محمد رشدي سلام.
ولا أُبَالِغُ إذا قُلتُ: إنّ دَاودَ حَمَلَ المسرحَ معه حيث ذهبَ، فَمَوهِبَتهُ الفِطرِيَةُ، وهوايته المسرحية، جَعَلتا داود الثامنة مَحَطَ أنظارِ ملايين المشاهدين.
أمّا لهجَته، العاميةُ، المحببة، فيدافع عنها، قائلاً: «لا أحدَ يُنكِرُ على الشامِيِ لسانَهُ إذا ظَهَرَ على الشاشَةِ، ولا على المِصري؛ لكِنكُم تستَغرِبُون أن يَتَكَلَمَ سعوديٌ مع سعوديٍ، أو خليجيٌ مع خليجيٍ، بلسانِهِ، وهما يناقشانِ شأناً داخلياً، قد لا يَخُصُ غَيرَهُم.
ثوبه ذو ياقة وحيدةُ الزِرِ، عِقَالُهُ المائل عمداً، وَصَوتُهُ، الذي تُقسِمُ مرتين أنَكَ سَمِعْتَهُ في مَجْلِسِ بَيتِكُم، أو في حِوارِ مقهى بين شوطي مباراة الهلال والنصر… كل ذلك صَنَعَ كيمياءَ نجاحِ داود التلفزيوني، وشعبيته الجارفة.
يَعتَقِدُ البَعَضُ أنَ داود انفَجَرَ نجماً، ظُهرَ الثانِيِةِ، وبعدَ الثامِنةِ مساء، ويغفلُ هؤلاء أو يتغافلون أن داود مُشاغِبٌ قَديمٌ، وتَقدُمِيٌ عتيق.
ولا أَدَلَ على تقدميته من سُخرِيَتهِ الدائمة من مِقَصِ الرقيبِ وشَخصِهِ، بل إنَ طلَبَهُ الوحيدَ، حينَ استدعاهُ الأميرُ سلطان بن عبدالعزيز، رحمه الله، يختصرُ قَنَاعاتَ داود، إذ قال للأمير: «نرجوكَ يا سمو الأمير، أن تَرفَعوا الرقَابَةَ عن صحيفة (الحياة)، فجريدة (السياسية) الكويتية، التي يملكها زميلنا أحمد الجار الله، تُطبَعُ في السعودية، دون رقابة، فمن باب أولى أن تكون (الحياة) مثلها». في اليوم التالي، صدر أمر من الملك فهد، رحمه الله، بما تمناه الشريان على الأمير سلطان، ورُفعت الرقابة عن (الحياة).
لم يُفَكِر الشريان في بداياتِهِ، في العمل الصحافي، فقد شُغِفَ وشُغِلَ بالمسرح، وأضاف لهُ التمثيل. يقول داود، محاضراً في إثنينية عبدالمقصود خوجة: «في المرحلة المتوسطة تعرفتُ إلى الأستاذ محمد الطويع، وكانَ وقتها أستاذاً للتربيةِ الفنية، هاوياً للفنِ، وقبلَ أن يُسافِرَ إلى أمريكا أسندَ لي بطولةَ مسرحيةٍ كوميدية، نالتِ المركزَ الأولَ على مستوى المملكة، نسيتُ اسم المسرحيةِ، ولكني ولِعتُ بالمسرحِ، وبدأتُ أبحثُ عن تعويضٍ لفقدان العمل، فقلتُ إنَّ الكتابةَ عن الَفن ستُطفِئ الظَمَأ، وقررتُ أن أَخُوضَ تجربة الكِتابةِ عن الدراما. كُنتُ وَقتَها على أبوابِ الجامعةِ، وكانَ أولُ مقالٍ أكتُبُهُ، في (رسالة الجامعة)، عن مسلسلٍ تليفزيوني»، يضيف داود: «وفي الصحافة المحترفة، كانَ أول مقالٍ لي في جريدة (الجزيرة) بعنوان: «من هو البطل»، يُنَاقِشُ الفَرقَ بينَ الفِكرةِ والبَطَلِ، في العملِ الدِرَامِي. في الجامِعَةِ، وَجَدْتُ المَسْرَحَ مُجَدَدًا، فقرأتُ مسرحياتٍ عالميةٍ، وبخاصةٍ المسرح الرُوسِيّ، وأُعجِبْتُ بالتجرُبةِ الكويتية».
يواصل حديثه: «كنتُ أسافر يومين لحضور مسرحياتٍ في القاهرة والكويت. في الجامعة فتَح لي المسؤولُ، عن مسرح جامعة الملك سعود، أنا والراحِل، بكر الشِدي، وزُملاء مثلَ محمد الطاهر، ومحمد جَنّه، ومَعتوق العامودي، وصالح الزاير، وناصِر القصبي وآخرين، وصَنَعَ منا فرقةً مسرحيةً عظيمة. في القاهرة أتيح لي لعب دور بطولةِ مسرحية (سوق الحمير)، لتوفيق الحكيم، وعلى خشبة مسرح محمد فريد، شعرتُ تِلكَ الليلة بأنني على أبوابِ الاحترافِ، أقِفُ على عَتَبَةِ مسرحٍ وَقَفَ عليها عُظَمَاءُ المَسرح المِصري، فَتَحوّل الوَلَعُ إلى إصرارٍ على إكمالِ المَسِيْرة، لَكِن الأمَلَ تَبَدَدَ ساعةَ لاح. شَعَرتُ أَن الإصرارَ على المسرحِ في ذلك الوقت، سيجعلُ مِني شَهيداً، وأنا لا أحبُ الاستشهاد المَجَانِي. قَرَرَتُ أنَ أتنازَلَ عن رُتبَةٍ، وأَبْقَى في ثكَنَةِ الفَنّ؛ قَرَرَتُ أن أشْتَغِلَ في النَقْدِ المَسرَحِيّ، ودَخلتُ الصحَافَةَ من هذا البابِ، فَوَجْدتُ مُعْظَمَ نُجُوم الصِحَافةِ السُعودِيَة قادِمِيْنَ من المُدَرجَات، وأنا قادِم من خَشَبَةِ مَسْرَحِي»!.
لقاءٌ.. وطريقٌ للصحافة
بعد التخرج، كانت مرحلة من أخصب مراحل العمل المهني لداود في 1977 إذ التحق بمجلة (اليمامة)، التي كانت في تلك المرحلة تَعُجُ بطاقات شابة تمتلئ حماسة وإبداعاً، وتقدم عملاً صحافياً مميزاً. تدرج الشريان فعمل سكرتير تحرير، ثم مديراً للتحرير، وفي فترات كان يقوم بأدوار رئيس التحرير.
بينَ المسرحِ والصِحَافة، جِسْرُ عبُورٍ… داودُ المأخوذ بخَشَبَةِ المسرحِ، بالآداب والروايات، بالأبطالِ المَصنوعِينَ بِعنايةٍ، في نَص أديبٍ، لم يكن بذلك خارجَ الجَوِّ الصِحافِيّ، إذ بَقِيَ مَشغولاً بالمسرح، ولَجَ الصحافة بهدف التخصص، في النقد الفني، لكن الصحافة ببريق بلاط صاحبة الجلالة، يسرق المنتمين إليها دون أن يُحسوا.
كان هناك لقاء فاصل في حياته. يقولُ الأستاذ الشريان: «عام 1980، التقيتُ مُديرِ مَنطِقَةِ الشرق الأوسط في وكالة (أسوشييتد بريس)، في أحد مؤتمرات القمة، وطلب مني أن أعمل مُراسلاً للوكالة بالمملكة، فقلت له: إن المسألة تحتاج إلى رخصة رسمية. لاحقاً، ساعدني، الراحل الدكتور محمد عبده يماني، (وزير الإعلام حينها)، أبلغني بالموافقة، وقال لي، رحمه الله: أَنتَ أولُ صِحَافِي سعوديٍ يَعْمُل مُراسِلاً مُرَخَّصًاً، لوكالة أنباءٍ أجنبية».
من المسرح.. إلى مجلة الدعوة!
يتحدث الأستاذ داود، عبر برنامج (في الصميم)، مع الزميل عبدالله المديفر، مشيرًا إلى أن الدكتور عبدالله بن عبدالمحسن التركي، طلب لقاء الشريان، فزاره الأخير في مكتبه، بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، سأل التركيُ الشريانَ عن ملاحظاته على (مجلة الدعوة)؟ فرد داود: «يا شيخ المجلة تريد لها أحد ينفضها، صِحَافي، لا يقبل شهادته الشافعي»! سمع التركي نصيحة داود، وسَكَت، ولم يعلم الشريان إلا وقد اختير ليكون رئيساً لتحرير مجلة (الدعوة)، ومديرًا عامًا للمؤسسة.
أجواء جديدة في الصحافة الدعوية، يقول: «أول ما عُيِّنتُ وزعتُ في المبنى (طفايات)»، أي منافض سجائر، قالها مبتسماً، بقصد المزاح، ليبين الفارق بين الصحافة العادية، والمجلات التي يقع على عاتقها ممارسة وقارٍ، لا يليق بالصحافة!
من الفنون والآداب والمسرح، من شارع محمد علي، وأجواء العوالم، إلى رئاسة تحرير مجلةٍ إسلامية، هي مجلة (الدعوة)، التي يشرف عليها المشايخ في السعودية. (الدعوة) جاءها الشريان، وهي لم تنشر في تاريخها، الذي يقارب عمر رئيس تحريرها، صورةً قط، وخرج منها وقد أحدث فيها خضة صحافية، فأنطق الجماد، وملأ المجلة بالصحافة الحقيقية، لكن منهجه الثوري في التغيير لم يقنع كثيرين من ملاكها!
يعتبر داود ما حدث أمرًا شبيهًا بالمسرح العبثي، أو الكوميديا السوداء. تجربة (الدعوة) استمرت بضعة أشهر، وانتهت بخلافٍ علني، بين الشريان، وملاك الأسهم في المؤسسة من علماء المؤسسة الدينية في السعودية.
كبريت الصحافة
في 10 أبريل 2004، أجرى الزميل الراحل عمر المضواحي، رحمه الله، حواراً مع الأستاذ داود الشريان في جريدة «الشرق الأوسط»، كتب في مقدمته، بحرفنة، لا يتقنها غير عمر: «يصفه المقربون بأنه كبريت الصحافة السعودية. يشتعل لحظة أن يتجرأ، أحد ما، على مس حدودها المقدسة. هو في أعين جيل المخضرمين «الابن الضال»، وعند الشباب كان الـ«شريان»، الذي يضخ بلازما الحياة في جسد الصحافة العليل. عندما خرج قطار هيئة الصحافيين السعوديين عن مساره الصحيح إثر تداعيات التأجيل الأول في يناير (كانون الثاني) الماضي، وبروز هيمنة «المحاربين القدماء» عليها، هاج وماج، وحمل أعواد الثقاب ليلقيها من دون أن يرف له طرف في عربات القطار، كان يبدو في أوج خيلائه وهو يردد غطاريف غضبته مبشرا بالانتصار. لم يجرؤ أحد على تقليده.. ومن يفعل كان يدرك أنه يسوق نفسه إلى عملية انتحارية. اليوم تغير الحال.. قرر الكبريت «داود الشريان» أن يتخلص من شهوة النار. خلع ملابس الحرب وتسربل فجأة بقلنسوة رجل المطافئ! بين النار والرماد.. كان ثمة مكان للسؤال والجواب. ليست محاكمة للمواقف، بل هي محاولة لفهم «تذكرة داود» عندما قرر أن يمس الهواء خليط الماء بالكبريت».
الشريان.. وهيئة الإذاعة والتلفزيون
في 2018 انتقل الشريان لهيئة الإذاعة والتلفزيون رئيساً تنفيذياً لها، وبعد أربعة أشهر من توليه منصبه أطلق قناة sbc، في تحدٍ مع الزمن، فمن المستحيل إطلاق قناة فضائية جديدة، خلال 120 يوماً، لكن الشريان كسب الرهان، وجعل من القناة الوليدة وجهة تلفزيونية منافسة لكبرى القنوات، ببرامجها ومسلسلاتها التي حققت للقناة نسب مشاهدات منافسة!
يقول أحد الذين عملوا مع داود في تلك الفترة: «لم يتوقف عمل الشريان على إطلاق قناة تلفزيونية فقط، بل رفع مداخيل القنوات التي يديرها، لتبلغ 150 مليون ريال في العام الواحد، بعد أن كانت قبل قدومه لا تتجاوز 500 ألف ريال»!
مرحلة داود في الهيئة، يختلف عليها الناس، فأنصاره يسوقون أدلة تميزه، وخصومه يقولون إنه دفع مبالغ هائلة لمسلسلات لا تستحق هذه الأثمان.
يقول أحد مناصريه: «واكبت رحلة الشريان في هيئة الإذاعة والتلفزيون رؤية المملكة 2030 في مجال تمكين المرأة السعودية، بإيصالها إلى المناصب القيادية، وإتاحة الفرصة أمام المبدعات والمثقفات والمميزات منهن للمشاركة في النهضة والبناء، فقد تولت السعوديات مناصب قيادية بالهيئة للمرة الأولى.: خذ مثلاً مساعدة الرئيس التنفيذي للمساندة، والمدير التنفيذي للشؤون التجارية، ومدير شراء البرامج، كلهن سيدات سعوديات. كما أن داود منح الشباب السعودي فرصة البروز في القنوات السعودية». يضيف: تحريرياً، أوقف الشريان الإسهاب في نشرة الأخبار، وألغى القنوات التي كانت تشكل خسائر للتلفزيون دون أن يكون لها مشاهدون، وخلق برنامجا للمواهب السعودية، على غرار البرامج العالمية، وحمى التلفزيون من تدخلات الجهات الحكومية، وفرض موادها دون اعتبار لرأي المشاهد، وانتزع حقوق الإعلان من الجهات الحكومية التي كانت تنشر إعلاناتها مجاناً، ليحصل التلفزيون قيمة الإعلانات نقداً».
عاد داود الشريان للبرامج، عبر شاسة sbc، ببرنامج «داود الشريان»، الذي أحدث ضجة كبيرة في أول حلقاته، وكان حديث الإعلام في الداخل والخارج، عقب إيقاف حلقاته عدة أيام.
إن استكثر البعض على الأستاذ داود هذا القبول الطاغي لدى المتلقي، ابتداء من العمود الصحفي مروراً بالمذياع، وصولاً الى ثامنته العجيبة، فبرنامجه في sbc، فمرد ذلك في تحليلي المتواضع أن داود ورث النصف الجميل من كل شيء، ثم أضاف أسلوبه الذي كان تذكرة العبور للملايين…
ورث ثقة رجال العقيلات، وصوت الجِمَالِ، الذي لا يُجامل حين يرى المظلوم أياً كان.
انحاز لمشاكل الناس اليومية، أرزاقهم. كان الأب الذي يحمل ملفاً أخضر، عن جموع العاطلين، والوالد الحنون، الذي يعطي الثقة لابنته، ويطلب من المتشددين أن يسمحوا لنصف المجتمع بأن يخرج بسيارته ليشتري الخبز والحليب.
حين يعتذر مسؤول خوفاً من بطشٍ شريانيٍ، هو في نظر داود -أضعف الإيمان- كان يترك مقعده فارغاً، إمعاناً في كمال الغياب والتغيب وثبوت تهمة التقصير.
الصحافي الذي دَرّسَ الصحافة، في جامعة الإمام، ومعهد الإدارة، يجيد الإجابات الدبلوماسية، فهو القائل: «لست معلماً ولا حلالاً للمشاكل»، رغم أنه حلال المشاكل القديم، الرجل الذي لسبع سنين لم يترك موظفاً في إدارته يواجه العتب أو الشكوى وحيداً، داود الذي تعرفونه أيها الناس، هو داود الذي نعرفه في الإعلام، رجل لا يحسن التخشب ولا التصنع، مسرحي بالفطرة، صحافي يهوى النبش، حتى يجد الحكاية، قدير يعرف قيمته جيداً، فهو الوحيد الذي كان يشرف على صحيفة مرموقة بينما يكتب في صحيفة منافسة، وحين سأله الأمير خالد بن سلطان عن ذلك، أجاب بلسان الواثق من بضاعته: «لم يطلبني أحد للكتابة في الحياة يا سمو الأمير، في هذه المهنة -الصحافة- يطلبني الآخرون ولا أفرض نفسي على أحد»، تلك هي ثقة حفيد الجَمّال. أغبط الثانية ظهرا، والثامنة مساءً، على اسم كالمغناطيس جذب الساعتين، بل احتكرهما، في ذهن المتلقي، حتى وإن توقف صاحبهما في استراحة محارب!