كلما تأملت في استعمالاتنا العربية للمفاهيم الكبيرة التي نضجت بالغرب أتألم لمستوى التشويه الذي تتعرض له. أضرب على ذلك مثلاً بمفاهيم كـ”الديمقراطية” و”الليبرالية”، هذه المصطلحات شكلت الحضارة الغربية والمدن الغربية، وتراها واضحة في ثقافة الناس، وفي شوارعهم وطريقة أكلهم وشربهم ولبسهم. استطاعت الحضارة الغربية أن تحول تلك المفاهيم إلى دماء متدفقة في شرايين الثقافة الاجتماعية الغربية. هذه الأيام تعيش الثقافة العربية حالة اختبار لمستوى تقبل الثقافة العربية للديمقراطية. في العراق الاختبار صعب، هناك من لا يؤمن بالخسارة. الفرقاء كلهم يريدون الفوز، وهذا غير ممكن في اللعبة الديمقراطية. في الديمقراطية هناك دائماً خاسر، ويجب أن يستسلم، ولا يمكن لفريق سياسي أن يفوز دائماً إلا إذا كان يمارس التزييف والخداع. ولا ننسى الاختبار السوداني الذي سيمر بعد فترة. يبدو أن الرسوب أمر غير مقبول في عقلية الإنسان العربي الذي يريد الفوز باستمرار. المفهوم الثاني الذي تعرض كثيراً للتشويه هو “الليبرالية”، هذا المفهوم الفلسفي الذي يطوّر السلوك الإنساني أصبح وسيلة تنابز بين المتحاربين من العرب، لكن نتيجة واحدة يمكننا اكتشافها من مراقبة تلك النزاعات، هي أن الليبراليين لا يمثلون الليبرالية الفعلية المتحضرة، والإسلاميين لا يمثلون تعاليم الإسلام. بل إن الليبرالية ذاتها لا تتعارض مع الإسلام. حالة التنابز الكثيفة وإطلاق أعيرة التنافي بين الإسلاميين والليبراليين جعلت من مفهوم الليبرالية أضحوكة لدى الكثير من المجتمعات المحافظة. كان بإمكان الليبراليين أن يثبتوا عبر ممارساتهم وسلوكياتهم أن الليبرالية ليست شكلاً بارداً، وليست مجموعة من المصطلحات أو الانفتاح البوهيمي الأهوج. وإنما هي حالة من تعزز الفردانية، وتطوير السلوك الذاتي، والتحصّن بأجمل الأخلاق والعبارات في التعامل مع الآخرين، كما أنها تضع الحرية الذاتية مستوى يكمل حرية الآخر. من واجب الليبرالي مهما كان مذهبه أو تفكيره أو انتماؤه، أن يدافع عن المخالفين له في الرأي، على طريقة “فولتير” الذي قال: “إنني مستعد أن أموت من أجل أن أدعك تتكلم بحرية مع مخالفتي الكاملة لما تقول”، هذا هو مستوى التطور لمفهوم الليبرالية الحقيقي، الذي نراه ماثلاً عياناً بياناً في شوارع أوروبا وأميركا. وهم يمارسونه كسلوك طبيعي بشري تغذوا به منذ الصغر. فولتير يدعو إلى “العقل” لأنه بوابة الدخول إلى زمن الليبرالية فيقول: “حين يفسد العقل يتحول الإنسان إلى خليط من العجماوات تفترس بعضها البعض إلى قردة تحاكم ذئابا وثعالب، هل نريد أن نجعل من تلك العجماوات رجالاً؟ علينا أن نقبل أولاً أن يكونوا عقلاء”. لهذا يجب ألا نتعجب من همجية الاستعمال العربي لليبرالية، هناك الكثير من الممارسين للاستبداد يدعون الانتماء لليبرالية. أستغرب من الليبرالي الذي يدعو إلى اضطهاد طائفة، أو قتل مخالف، هل هذه ليبرالية بالله عليكم؟ كيف يمكن لليبرالي يفهم معنى الليبرالية أن يمارس هذه الأدوار؟ آن الأوان أن نعيد ترتيب أفكارنا، وأن نصحح الكثير من المفاهيم الإنسانية، التي لم تعد ملكاً للغرب. المفاهيم الكبيرة التي أنتجها الغرب تتحول إلى إرث إنساني مشترك بإمكاننا الاستفادة منه واستثماره كما يقول طه حسين. بل هو محتوى بشري، ولحسن الحظ أن الغرب لم يقفل علينا باب الاستفادة من المنتجات التي بذلها لنا بسخاء. التشويه الذي يمارس تجاه المصطلحات خطأ فادح، والكارثة أن الكثير من أدعياء الليبرالية لم يقرأوا كثيراً عنها. بل يتشدقون بمصطلحات كبيرة من دون أن تنعكس تلك المقولات على سلوكهم. وهذا هو الخلل الكبير أيها السادة. هل وعينا حجم المشكلة؟
جميع الحقوق محفوظة 2019