كلنا يعرف قصة جحا، عندما كذب على الناس كذبة فصدقها· يمكن أن نقول إنه تقمص الدور بإتقان، فامتلأ به، حتى وصل إلى درجة أن مرت الكذبة حتى عليه، وإن كان هو مبتكرها، ومؤلفها أصلاً·
في ثقافة أضرحة الأولياء، يُروى أن كاذبين سافرا على حمار، وفي الطريق مرض الحمار فمات، فتفتق ذهن أحدهما عن فكرة جهنمية، إذ دفنا الحمار، وزعما أن قبره لولي من أولياء الله الصالحين، وما أن شاع الخبر حتى تحول الضريح مزاراً يتلقى الهبات ويرجو الزوار منه تحقيق الطلبات· اختلف صاحبا الحمار يوماً على قسمة الغلة، فلم ترضِ أحدهما قسمة رفيقه، وقرر أن ينتقم منه بتهديده بأنه سيدعو الولي (الحمار) لينتقم منه· فأطلق الثاني ضحكة مجلجلة وقال: لقد دفناه سوياً!
القصتان مشهورتان، وعلى الرغم من أننا نستعمل قصة جحا كثيراً، إلا ان الوقوف عند هذه القصة وتأملها يكشف لنا أن كلنا يمكن أن يكون جحا دون أن تلحقه الصورة الذهنية المعهودة عن جحا الممتزجة بين السخرية والتندر، والأمر ذاته أحياناً يحدث فيما يتعلق بالولي الحمار!
وبإمكان كل منا أن يستخدم ذات الطريقة في طرد عاداته السيئة والتخلص منها·
لكل شيء في هذه الدنيا أكثر من زاوية يمكن أن تنظر إليه من خلالها، وتتباين هذه الزوايا في إيجابياتها وسلبياتها، سواء بالنظر إلينا أو إلى هذه الأشياء، أو الظرف المكاني والزماني·
عندما ترغب في التخلص من تعلقك بشيء وتضخم في نفسك جوانبه السلبية، وتكرر على عقلك الباطن هذه السلبيات، وتمعن التفكير فيها، ستجد نفسك تكرهه، أو على الأقل تصد عنه·
وبالعكس، عندما تركز على الجانب الإيجابي في أمر ما، وتسوّق لنفسك وجوه الحسن فيه، سيستقبل عقلك الباطن هذه الإيجابيات ويتعاطى معها فيدفعك إلى محبة الشيء، دون أن تمر عليك مقولة صاحب الحمار:”لقد دفناه سوياً”!
وإذا تأملنا فإن ذات الفكرة هي التي توجد تبايناً نسبياً بين البشر في الإقبال على الأفكار والأشياء والأشخاص، أو النفور منها والبعد عنها·
لماذا يُقبل البعض على التدخين ويتصورون أنفسهم غير قادرين على التخلص منه، وينفر منه آخرون، إلى درجة أن البعض لا يمكنه مجالسة مدخن؟
التدخين لا يتغير، والسيجارة هي ذاتها، لكن النظرة إليه هي التي تغيرت فحببت هذا فيه وكرهت ذاك به·
وهكذا بالنسبة للأشخاص، والأفكار، وكل شيء في هذه الدنيا·
يمكن اعتبار هذه الفكرة قابلة للتطبيق فيما يجزم الإنسان برغبته فيه، أما ما لم تصل فيه إلى الجزم فمصيره الأفضل عرضه على حسابات الأرباح والخسائر، أو الإيجابيات والسلبيات···
لماذا يردد علينا دعاة التفاؤل مثل الكوب الذي في نصفه ماء، ليعتبروا من ينظر إلى النصف الفارغ متشائماً، ومن ينظر إلى النصف الملآن إيجابياً متفائلاً؟
لأن من ينظر إلى الجزء المملوء نظر إلى الإيجابيات، ومن نظر إلى النصف الفارغ اهتم بالجانب السلبي·
الأشخاص الذين ينظرون إلى الجانبين الإيجابي والسلبي معاً هم الأقرب إلى الواقعية والمنطقية· إنهم من يتقنون حساب الأرباح والخسائر، فإلى أي الجانبين مالت الكفة حكموا بالنظر إلى ذلك بالقبول أو الرفض· إنه ذات المنطق القرآني:(قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس، وإثمهما أكبر من نفعهما)·
جميع الحقوق محفوظة 2019