في مناسبة عشاء اجتمع رئيس تحرير مجلة «نيويورك تايمز» الأميركية؛ جيك سيلفرشتاين، بالكاتب سكوت أندرسون. كان الاتفاق على عمل عددٍ يتعلّق بالمآلات التي تهدد منطقة الشرق الأوسط بعد الربيع العربي. امتدّ الملفّ الذي وصف بـ«الملحمة» لأكثر من أربعين ألف كلمة، استغرقت ثمانية عشر شهرًا. لقد كان ملفًا لافتًا بحق، العمل الصحافي الاستقصائي: «تفكك العالم العربي»، الذي نشر في «الشرق الأوسط».
أخذ العامل الاقتصادي دوره في حالة إمكانات التفكك وتهشم الدولة وترهّل المؤسسات، لأن «الطبيعة العشوائية للربيع العربي تجعل من الصعوبة بمكان تقديم إجابة واحدة. شهد بعض البلدان تحولاً جذريًا، حتى رغم أن عددًا من جيرانهم المباشرين يكاد لم يمسسهم شيء. وكان بعض البلدان ممن واجه أزمة، غنيًا نسبيًا (ليبيا)، فيما كان بعضها الآخر يعاني فقرًا مدقعًا (اليمن). وانفجرت الأوضاع في بعض بلدان المنطقة التي كانت تحت ديكتاتورية أقل بطشًا نسبيًا (تونس)، كما انفجرت في بعضها الآخر الذي كان يرزح تحت وطأة أشدها وحشية (سوريا). ويظهر نفس مدى التفاوت السياسي والاقتصادي في البلدان التي ظلت مستقرة»، بحسب أندرسون، الذي اعتبر أن «هناك نمطًا واحدًا لا يظهر، وهو مدهش. ففي حين أن غالبية البلدان الـ22 التي تشكل العالم العربي تعرضت بدرجة ما إلى آثار الربيع العربي، فإن البلدان الستة الأكثر تعرضًا لآثاره (مصر، العراق، ليبيا، سوريا، تونس، اليمن) كلها جمهوريات، وليست ملكيات».
ثمة عوامل كبرى تمكّننا من الحديث عن إمكانات التفكك والتقسيم لبعض دول الربيع العربي، ذلك إن الحراك كشف عن أعطال ثقافية واجتماعية كثيرة، إذ سرعان ما استيقظت الانتماءات القبليّة، وتغذّت الطائفية على الحراك الهائج، نرى ذلك في سوريا بأوضح الصور، إذ تم تحويل المشهد الثوري السوري، من رغبةٍ في التغيير، إلى صراعٍ بين العلويين والشيعة من جهة، والسنة المناوئين للنظام من جهةٍ أخرى!
هذه اليقظة السلبية تجعل دولاً مثل ليبيا واليمن وسوريا في مرمى التفكك والانهيار، هذا مع تفاوت مستويات الاقتصاد المتوفرة لدى كل بلد، بينما الملاحظة التي قدّمها أندرسون حول الدول الملكية يمكن استيفاؤها وإكمالها، بكون الدول الملكية أقدر على التكيّف مع التحولات المحيطة بالعالم، بل إن الربيع العربي جاء ليجدد مشروعيتها، فقد كانت هذه بيعة أخرى لها، وجددت شعوبها لأنظمتها الولاء، وبالمقابل قامت الدول بإجراءات تنموية وأغدقت على شعوبها المشاريع والبرامج..
أسست بعض الجمهوريات العربية، حالة من التأليه للزعامات بشكلٍ مستفز منذ أيام الناصرية والقومية العربية؛ تصنيم شنيع لأحداث معينة، وأوقات انقلابات وثورات، مقابل إفلاس اقتصادي يعاني منه الناس، وانهيار مؤسساتي، جعل المجتمعات منفصلة تمامًا عن الجسم السياسي، وبالتقادم ومع برود حرارة التقديس تنشأ رغبة في الانتقام والاقتصاص، وإن بقيت الشعوب تحت نير الديكتاتور أكثر من نصف قرن، كما في ليبيا وسوريا واليمن خاصة، فإنها تجد وسيلتها للانتقام والاقتصاص، بينما امتازت الدول الملكية بالحكمة النادرة، والوعي الأصيل للمجتمعات، بالإضافة إلى القرب من الناس، وسهولة وصول الرأي والملاحظة لصاحب المسؤولية، وهذا صنع نظامًا اجتماعيًا يختلف جذريًا عن النظام الاجتماعي في الدول الجمهورية التي تبنت آيديولوجيات بعينها.
لهذا فإن إمكانات التفكك التي طُرحت في الملف ستبقى موجودة، لأن الوضع على الأرض لا يزال تحرّكه الرمال، والخطو نحو السلام في دول الاضطراب لن يكون قريبًا، بل إن بعض الأزمات رغم دمويتها لا تزال في بدايتها، ولم نرَ منها إلا رأس جبل الجليد.
للأسف، إن الاحتمالات تنحصر بين التفكك والتقسيم أو الحروب الأهلية المستمرة، وربما وصلت الحال في أحسن الأحوال إلى «الفوضى المستقرة»، ضمن كيانات اقتصادية هشّة. تلك هي النتيجة لربيعٍ عربي باتت كل ذكرياته دامية.
جميع الحقوق محفوظة 2019