زرت الولايات المتحدة في العام 2000 في بداية مشروع دراسي لم أنته منه إلا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 بأكثر من عشرة أشهر تقريباً.
دخلت أميركا أنا وأسرتي؛ زوجتي وأطفالي، وليس فينا من يتحدث الإنجليزية بطلاقة، لكننا لم نحس يوماً بأننا في بلد تقف اللغة عائقاً في التواصل مع أهله وساكنيه، فشعور الناس الإيجابي وبثهم لمشاعر الألفة والمحبة، كان يكفي للتواصل بما لديك من إنجليزية كسيحة آنذاك. يوم أن ارتطمت الطائرات التي اختطفها ابن لادن وقاعدته المشؤومة بأبراج التجارة ومبنى البنتاجون، وهي التي يسميها متطرفونا بـ”بجاحة” منقطعة النظير، ويسايرهم مثقفون حائرون بين اليسار واليمين: غزوتي واشنطن ومنهاتن، سقطت أشياء كثيرة منها ذكريات حلوة لكل سعودي في الولايات المتحدة.
حتى أحداث الحادي عشر من سبتمبر كان الجواز السعودي يفوق الجواز البريطاني قيمة في الولايات المتحدة، ولا أذكر أني سرت في الغرب الأميركي حيث كنت أعيش للدراسة وأسكن، شمالاً أو جنوباً، واستمعت من أحد من الناس الى كلمة سوء واحدة ضد السعودية أو السعوديين، هذا إذا لم أسمع كلاماً جميلاً يتحدث به من عاش أياماً في السعودية حفرت ذكرياتها الجميلة في مخيلته، أو من كان له قريب مر بتلك البلاد العربية، أو أنه زامَل في صفوف الدراسة سعودياً في السبعينات, يوم كانت أعداد السعوديين في أميركا تقدّر بعشرات الآلاف.
لا زلت أذكر جيداً أني بعيد وصولي أميركا بأسبوعين اضطررت لإجراء عملية جراحية، فوقعت في حيص بيص، إذ كيف سأترك زوجتي وأطفالي في مدينة لم نضع فيها قدماً إلا منذ أسبوعين اثنين؟. وخفف عني الطبيب, قائلاً إن العملية لا تستغرق أكثر من ساعات معدودات. دخلت المستشفى فزاد من حيرتي أن وجدته مستشفى تابعاً لكنيسة والصلبان تملأ أرجاءه، لكن ترقبي وقلقي، انقلبا برداً وسلاماً، عندما وجدت رعاية فائقة ولطفاً بالغاً، من كل من في المستشفى مع أنهم يعلمون أني مسلم وسعودي.
بعد الحادي عشر من سبتمبر بات على كل واحد منا, نحن السعوديين في أميركا, أن يختار له جنسية تتناسب مع شكله وسحنته ليدلس بها على من يسأله السؤال التقليدي لدى الأميركيين: من أين أنت؟!
وكم من القصص الساخرة أدرنا رحاها بيننا عندما يختار بعضنا جنسية فيتورط في كون السائل يتقن لغة أهل البلد الذي اختاره صاحبنا السعودي ليكون حاملاً لجنسيته. لا أحسب أن في شعوب الأرض أطيب من الشعب الأميركي، وأكثر وداً منه، والناس هناك يألفون ويؤلفون. واليوم، أجد أثراً من آثار ابن لادن باديا. فالبلد الذي أردت أن أذهب إليه أنا وأطفالي صيفاً، لا لنستعيد ذكرياتنا معه وذكرياته معنا فحسب، بل لنرافق والدتي المريضة هناك، جعلتني أنتظر أكثر من ثلاثة أسابيع في انتظار الحصول على تأشيرة لدخولها. ويمنح أطفالي وزوجتي وخادمتنا الفلبينية، التأشيرة في ذات يوم المقابلة الشخصية، وتؤجل تأشيرتي، مع احتمال قبول منحي إياها، أو رفض ذلك، لا لشيء إلا لأنني أشترك في الجنسية مع أناس أعلنوا أنهم الوكلاء الحصريون لنشر الكراهية في الأرض، والموزعون الوحيدون للتفجيرات في هذا الزمان…
التفت إلي صديق عزيز بعد أن حكيت له حكايتي المؤلمة، وسألني: هل تلوم الأميركيين على حرصهم على أمنهم؟ فأجبته: أبداً… لكن هذا لا يمنعني من أن أتألم لهذا الواقع المؤسف!
جميع الحقوق محفوظة 2019