كان الزبرقان بن بدر (ت 45هـ)، أحد الشعراء المخضرمين، الذي شهدوا الجاهلية والإسلام، ولأنه من سادات تميم، ذهب على رأس وفد قومه، إلى النبي مبايعاً، في العام التاسع للهجرة، فَوَلَّاه الرَسُول صدقات تميم، وأبقاه على ذلك أبا بكر، وعمر، في خلافتيهما.
غرابة اسم الزبرقان، متصلة بمعناه، فصاحبنا كان (دنجواناً) نجدياً، سُمِّيَ الزبرقان؛ لجمال خلقته، وحُسن طلته، ولُقِّبَ بقمر نجد. والزبرقان من أسماء القمر، كما في المعاجم.
رافق الزِّبْرِقانُ، لزيارة الرسول وبيعته، ابن عمه، عَمرَو بنُ الأَهْتَمِ، ففخَرَ الزِّبْرِقَانُ، وقال: يا رسولَ الله: أنا سَيِّدُ تَمِيمٍ، والمطَاعُ فيهم، والمُجَابُ منهم، آخُذُ لهم بحُقُوقِهم، وأمْنَعُهم من الظلم، وهذا يَعْلَمُ ذلك. يقصد عَمرَو بن الأَهْتَم، الذي عقّبَ على موشح الافتخار الزبرقاني، بقوله: وإنه لشَدِيدُ العارِضةِ (أي: ذو جَلَدٍ وصَرَامةٍ)، مانِعٌ لجانبِه، مُطَاعٌ في أدَانِيه (أي: أقاربه). فقال الزِّبرِقَانُ: والله لقد كذَب يا رسولَ الله، وما يَمْنَعُه أن يتَكَلَّمَ إلَّا الحسدُ. فقال عمرو: أنا أحْسُدُكَ! فوَالله لبئيسُ الخَالِ، حَدِيثُ المالِ، أحْمَقُ الوالدِ، مُبْغَضٌ في العشير، والله يا رسولَ الله، ما كذَبْتُ فيما قُلْتُ أولا، ولقد َصدَقْتُ فيما قُلْتُ آخِرا؛ رَضِيتُ فقُلْتُ أَحسَنَ ما عَلِمْتُ، وغَضِبْتُ فقُلتُ أقْبَحَ ما وَجَدْتُ، ولقد صَدَقْتُ في الأَمْرِيْنِ جميعا. فقال النبيُّ الكريم: “إِنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْرَاً”. فأطبقت شهرة الحديث الآفاق، وبات من أشهر الأمثال السائرة.
قال الطيبي: “بعض البيان، يعمل عمل السحرِ، لحدة عمله في سامعه، وسرعة قبول القلب له، وأما حسن التشبيه، فأن يكون مورد المثل، مما له صلاحية الممثل به، لحسن موقعه وندرته كما في الحديث”، معتبراً هذا المثل، “يُضربُ في استحسان المنطق، وإيراد الحجة البالغة”.
والغريب أن بعض الشُرَّاح، اعتبروا الحديث، يذم البيان، والفصاحة، والبلاغة، عندما قرنها بالسِحر، المحرم شرعاً. لكن العَلّامة ابن عبدالبر القرطبي، أصَرَّ على الرأي الآخر، فقال: “أبَى جُمهورُ أهلِ الأدبِ والعِلم بلسانِ العَربِ إلَّا أَن يَجعَلُوا قولَه -صلى الله عليه وسلم-: “إن من البيانِ لَسِحْرا”، مَدْحَاً وثناءً وتَفْضِيلاً للبيانِ وإطْرَاءً”، وأن الأثر “دليل على مدح البيان، وفضل البلاغة، والتعجب بما يسمع من فصاحة أهلها، وفيه المجاز، والاستعارة الحسنة، لأن البيان ليس بسحر على الحقيقة، وفيه الإفراط في المدح، لأنه لا شيء في الإعجاب والأخذ بالقلوب يبلغ مبلغ السحر. وأصل لفظة السحر عند العرب الاستمالة وكل من استمالك فقد سحرك”(…)”ما يَدُلُّ على أن التعجُّبَ مِن الإحْسَانِ في البيانِ والبلاغةِ، مَوْجُودٌ في طِبَاع ذَوي العُقُولِ والفصاحةِ، وكان رسولُ الله -صلي الله عليه وسلم- قد أُوتيَ جَوامِعَ الكَلِم، إلَّا أنَّه بإنْصَافِه كان يَعْرِفُ لكُلِّ ذي فَضْلٍ فَضْلَه. وفي هذا ما يَدُلُّ على أن أبْصَرَ الناسِ بالشيءِ، أشَدُّهم فَرَحا بالجيِّدِ منه، ما لَم يَكُنْ حَسُودا”.
ويذهب مصطفى صادق الرافعي، في شرحه للحديث، خارج الصندوق، فيقول: (إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرا)؛ جعل نوعا من البيان هو السحر، لا البيان كله، فالحديث كالنص على ما تسميه الفلسفة الأوروبية اليوم (بالبيان الفني)، كأنه قال: إن من البيان فنا هو سحر من عمل النفس في اللغة تغير به الأشياء، وله عجب السحر وتأثيره وتصرفه؛ وهذا معنى لم يتنبه إليه أحد، ولا يُذكر معه كل ما قالوه في تفسير الحديث، وبذلك التأويل يكون هذا الحديث قد احتوى أسمى حقيقة فلسفية للفن”.
وتشبيه الكلام البليغ المؤثر في النفوس، بالسحر، حاضر بقوة في شعر العرب، كقول، يوسف بن هارون:
نَطَقَتْ بِسِحْرٍ بَعْدَهَا غَيْرَ أَنَّهُ مِنَ السِّحْرِ مَا لَمْ يُخْتَلَفْ فِي حَلَالِهِ
وبشار بن برد:
وكأنّ تحتَ لِسَانِـــــــــها هاروتَ ينفثُ فيه سِحرا
وكأنّ رجْعَ حديثــــــــها قِطَعُ الِّرياضِ كُسِينَ زَهْرا
وقول أبي تمام:
فَأَينَ قَصَائِدٌ لِي مِنْكَ تأْبَى وَتأَنَفُ أَنْ أُهَانَ وأَنْ أُدالا
هِيَ السِّحْرُ الحَلالُ لِمُجْتَنِيهِ وَلَمْ أَرَ قَبْلَهَا سِحرَا حَلالا
وقول ابن الرومي:
وَحَدِيثُها السِّحْرُ الحَلالُ لَو أنَّهُ لَم يَجِن قَتْلَ المُسْلِمِ المُتَحَرِّزِ
إِنْ طَالَ لَمْ يُمْلَلْ وإِنْ هِيَ أَوْجَزَتْ وَدَّ المُحَدَّثُ أَنّهَا لَمْ تُوْجِــزِ
قصد رجلٌ، في حاجة له، عمر بن عبد العزيز، وكان في قضاء حاجته مشقة، فتحدث الرجل بكلام رقيق، فصيح، موجز، فعلَّق عمر: “والله إن هذا لهو السحر الحلال”.
ونحوه قول أَبي نصر المقدسي: “إِذا قَرَأتُ أَو سَمِعتُ كَلَاما حَسَنَا، تذكرتُ قَوْله تَعَالَى: {أَفَسِحرٌ هَذَا أم أَنْتُم لَا تُبْصِرُون}”.
وأَجَادَ حَسَّانَ بنِ ثابتٍ، مادحاً ابن عباسٍ، بقوله:
صَمُوتٌ إذا ما الصَّـــمْتُ زَيَّنَ أَهـــــلَهُ وفَتَّاقُ أبْكــــارِ الكَــــلامِ المُــخَتَّمِ
وَعَى ما وَعَى القرآنُ من كُلِّ حِكْمَةٍ وَنِيطَت لَهُ الآدَابُ باللَّحْمِ والدَّمِ
ولأننا بدأنا الحديث عن الزبرقان، فلا يمكن أن نتجاوز إحدى أهم قصصه، وكانت مع الحطيئة، الشاعر اللاذع، المشهور بهجاء كل أحد، حتى هجى أمه وأبوه، بل وهجى نفسه!
هجا الحطيئة الزّبرقان، بقوله:
أزمعت يأسا مبينا من نوالكم * * * ولا يرى طاردا للحرّ كالياس
دع المكارم لا ترحل لبغيتها* * * واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
فاستعدى الزبرقان عليه عمر بن الخطاب، فقال عمر: لا أرى فيما قال بأساً. فرد الزبرقان: والله يا أمير المؤمنين: ما هُجِيتُ بأقذع من قوله:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها* * * واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
فحَكَّم عمر، حسان بن ثابت، وسأله: أَتُراه هجاه؟! فأجاب حسان: بل سَلَحَ عليه!
فحبس عمر الحطيئة، فاستعطفه بأبيات من الحبس:
ما ذا تقول لأفراخ بذي مرخ * * * حمر الحواصل لا ماء و لا شجر؟
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة * * * فاغفر عليك سلام اللّه يا عمر
ما آثروك بها إذ قدّموك لها * * * لكن لأنفسهم كانت بك الأثر
فأخرجه عمر، و جلس على كرسي، و أخذ بيده شفرة، موهماً أنه سيقطع لسانه، فضجّ، و قال: إني و اللّه يا أمير المؤمنين، قد هجوت أبي و أمي و امرأتي و نفسي، فتبسّم عمر، ثم قال: ما الذي قلت؟ قال: قلت لأبي و أمي:
ولقد رأيتُكِ في النساء فسؤتِنِي * * * وأبا بنيك فساءني في المجلس
وقلت لأبي خاصة:
فبئس الشيخُ أنت لدى تميم * * * وبئسَ الشيخُ أنتَ لدى المعالي!
قال أبو أحمد بن عبد ربه:
رَجعُ صوتٍ كَأَنَهُ نَظمُ دُرٍّ ما يَرَى سلكه سِوى الآذانِ
تنفُثُ السِحرَ بِالبَيَانِ مِنَ القَول ولا سحرَ مِثل سِحرِ البيانِ
ولو لم يكن من فضل البيان، إلا أن الله ربطه بخلق العباد، بقوله: {خلق الإنسان عَلَّمَه البيان)، لكفى البيان فخراً، ولا عجب حينها، أنه يكون منه سحرا!