في العاشر من مايو الماضي كنتُ ضيفاً على مجلس نادي دبي للصحافة، وساهمتُ مع مبادرة مختبر دبي للقراءة.
الجيل الشاب أثرى النقاش وغذّى الحوار. كانت القراءة موضوع الندوة، والعمود الفقري للحديث كله. في نفس الفترة أعلنت دبي عن حملةٍ رمضانية بعنوان: «أمة تقرأ»، تهدف إلى جمع وطباعة وتوزيع خمسة ملايين كتاب من الإمارات إلى العالم. مبادرة تأتي في سياق حملاتٍ متعددة، قام عليها ورعاها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، وهي تتويج لحكاية القراءة بالإمارات. مبادرات تشمل الأطفال والشباب والكبار، فالقراءة سلوة لكل عمر.
على حسابه في «تويتر»، كتب صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد: «وعدت طلابنا في الإمارات بتوزيع شهادات شكر شخصية مني لمن يتم قراءة خمسين كتاباً ضمن مشروع تحدي القراءة، وأتم 50 ألفاً منهم التحدي، بدأت اليوم بإيفاء وعدي لهم ووقعت أول مجموعة ووزعتها بنفسي، وسنرسل لكل واحد منهم شهادته لمدرسته، تحدي القراءة حقق قفزة في ثقافة ومعارف أبنائنا، وعندما يقرأ أبناؤنا 5 ملايين كتاب في كل عام فالقادم أجمل وأفضل».
كانت الاستجابة لتحدي المبادرة قويّة، والمكافأة مجزية، وبدون هذا الترغيب الرسمي، ومن دون القيادة الحكومية لمشاريع التنمية والتعليم فإن المجتمعات لن تتحرك، فالقراءة لا تنمو بالمواعظ الحسنة، أو الأقوال المفيدة، بل بالدعم الرسمي، والتهيئة المكانية والمؤسسية لإيجاد سبل الراحة لعشاق الكتب والمطالعة!
«ليس ثمة مكان يضفي قدراً أكبر من الإيمان الراسخ بتسامي آمال الإنسان، أكثر من مكتبةٍ عامة»، هكذا يقول الكاتب والناقد والشاعر البريطاني صمويل جونسون (1709-1784)، وأحسب أن تشجيع المكتبات العامة وتحسين أنماطها وتقريب بناها الشكلية والمعنوية من حركة العصر ستسرّع من تهافت الجيل الشاب إليها، لا للبحث في موضوعاتٍ تتعلق بالدراسة النظامية فقط، وإنما للتمتع بعيون العلم وكنوز المعرفة. للمكتبة في البيت أو الحي أثرها في تحويل موضوع العلاقة مع الكتاب إلى أمرٍ بديهي معتاد غير متكلّف، والمكتبة لا تقاس بالكبر أو الصغر، بل وجودها مع أسس معرفية، وأدبية، ولغوية، وتاريخية تعتبر مدخلاً للتعلّق بالكتاب.
في كتاب (المكتبة في الليل) للروائي الكندي ألبرتو مانغويل، خصّص فصلاً بعنوان «المكتبة كشكل»، يقول: «كان لابروست واعياً أن المكتبة الوطنية هي صرح ومكان للشؤون اليومية العامة في آنٍ واحد، كلا الأمرين، رمز الغنى الثقافي للبلاد، والمكان العمليّ الذي يحتاج فيه القراء العاديون لمتابعة حرفتهم براحةٍ وفعالية، بذلك كان للشكل والحجم أن يعكسا في الوقت ذاته الضخامة والحميمية، الفخامة والعزلة من دون دخلاء. كان تصوّر بروست لغرفة القراءة الرئيسية، قلب المكتبة، على أنها دائرة ضمن مربّع، أو بالأحرى كسلسلة دوائر ترتسم عالياً فوق مربّع القراء المجتمعين، تسع قباب زجاجية دائرية تسمح لأشعة الشمس بالدخول وإنارة المساحات ذات الزوايا القائمة بالأسفل». (ص119).
إذاً القراءة كلٌّ متكامل، فهي فضاء من السكينة والهدوء، ومزيج من الرغبة والإدمان الذاتي على المطالعة، والتسهيل الرسمي والمدني لمكتباتٍ ذات شكلٍ أنيق، ومريح، فعّالة وعمليّة، مريحة للقارئ، جذّابة له، لا تجعله يملّ من المكان أو اللون أو الشكل، لهذا خصّص عالم القراءة الأبرز مانغويل الفصل آنف الذكر حول المكتبة من خلال «الشكل»، فالمبنى جزء من المعنى.
بالتكامل والتعاضد بين مبادرات القراءة، وتسهيلاتها المدنيّة، نحن موعودون بأجيالٍ صاعدة، تعرف معنى الكتاب وتقدره قدره، لا تتعامل معه بوصفه مسلّياً في الطائرة والشاطئ والقطارات فقط، بل منبعاً للعلم والمعرفة، ومفتاحاً للتغيير والتجديد في المجتمع والواقع، وعلى حد قول مانغويل: «حبّ المكتبات، ككافة صنوف الحب، يجب أن يُكتسب».