وأنتَ تقرأُ هذا المقال، ستعرفُ، سيدي القارئ، أني شرعتُ في كتابته بعد انقطاع أسابيعَ عن الكتابة. ولعلَّ ما شدّني لإضاءة شموع الكتابة من جديد، هو ذلك الشوق الذي ينشأ بين الكاتب والقارئ، يُنبِتُه حديثهما بعضهما إلى بعض، ونقاشهما، وما يحدث من تبادل الأفكار، وتباين الآراء، وخلاف واختلاف، وشد وجذب، وألفة وإيلاف… كل ذلك رغم أنهم لا يلتقون وجهاً لوجه.
يُفكر الكاتب، بأثر الكلمة على القارئ الكريم، ويتخيَّل، خيالاً لا يَبعد عن الواقع كثيراً، قبوله لفكرة، ورفضه لأخرى. ابتسامته لجملة، وتأثره بعبارة. يحاذر القارئ الذي يُصدر الأحكام، حتى قبل أن يتصور الموضوع، وربما قبل أن يكمل المقال، ويحفل بالآخر الذي يتأنى في الحكم، ويحترم الثالث الذي يُدرك بوعي أنه ليس ملزماً بأن يكون له في كل قضية رأي، ومن كل شخص موقف، فيقبل على ما يرغب، ويتجاوز ما لا يناسبه.
لا شيء يؤنسني، سيدي القارئ، في ليالي الكتابة الثقيلة، مثل سابق الحُبِّ الذي بيننا، واندفاع عقلي الدائم، نحو عقولِ شعراء وأدباء وعلماء، كثيراً ما تُعيدُ جمعي إلى الأعلى… من تفرقي وبعثرتي.
أعود مع سابقِ حُب، لأفتحَ دفتري، متخذاً قَلمي عُكَّازاً يعينني على المشي، فَرِحاً بالعودة إلى أصدقاء الحكمة، جذلاً بصحبة فحول الشعراء، مغتبطاً بمنادمة رفاقي الأدباء، ناهلاً من حِكَمهم الغزيرة عن «المروءة»؛ التي عرَّفها معجم المعاني الجامع، بأنها «آداب نفسانية، تحمل مراعاتها الإنسان على الوقوف عند محاسن الأخلاق، وجميل العادات».
لقد ربّانا أهلونا على أن «المروءة» هي الفضائِلُ النبيلة، والأخلاقُ الجليلة، والعملُ الطيب، والحبّ الذي إن أيقنا بوجوبه، منحناه كله، بلا تبعيض ولا امتنان، لأنك تعامل الناس بما تقتضي سجاياك، لا انعكاساً لتصرفاتهم وأخلاقهم.
تلقينا «المروءة» بالفطرة، المتوارثة جيلاً عن جيل، فشربناها كما أُسْقيناها، بنقاء البساطة ومجافاة التقعر والتكلف، ولا يستوي الخبيث والطيب، وإن تعجبت من ازدحام كتب الأدب والفضائل بذكر المروءة، فتأمل تفسير الماوردي (ت 1058)، صاحب «الأحكام السلطانية»، واعتباره «في اشتقاق اسم المروءَة من كلام العرب، ما يدل على فضيلتها عندهم، وعظم خطرها في نفوسهم، ففيه وجهان؛ أحدهما: أنها مشتقة من المروءَة والإنسان، فكأنها مأخوذة من الإنسانية، والوجه الثاني: أنها مشتقة من المريء، وهو ما استمرأه الإنسان من الطعام، لما فيه من صلاح الجسد، فأُخذت منه المروءَة، لما فيها من صلاح النفس».
وقرّب ابن حِبَان (ت 965)، بين المعاني، باعتباره تعريفات المتقدمين للمروءة «قريبة بعضها من بعض»، فمنهم قائل إنها «إتيان الحق، وتعاهُد الضيف»، وقائل هي «إنصاف الرجل من هو دونه، والسموُّ إلى مَن هو فوقه، والجزاء بما أُتي إليه»، وثالث عدها «صدقُ اللسانِ، واحتمالُ عثرات ِالإخوان، وبذلُ المعروف والإحسان، وكفُّ الأذى عن الأباعدِ والجيران»، وقوم جعلوا المروءة «سخاوة النفسِ وحُسنُ الخُلق». وهناك من اختصر فأبدع بجعلها «الفصاحة والسماحة»، و«المفاكهة والمباسمة»، أي حسن العشرة ودوام البسمة. وقال قوم: «هي مراعاة العهود والوفاءُ بالعقود». وبلغت قيمة الوفاء، مبلغاً جعل بعضهم يرى المروءة في «التغافل عن زلَّة الإِخْوانِ». أما الأصمعي (ت 831) فقال إنها «باب مفتوحٌ، وخير ممنوح، وسترٌ مرفوع، وطعامٌ موضوع، ونائلٌ مبذول، وعفافٌ معروف، وأذى مكفوف»، ونُقل عن بعضهم أنها «الكرم والعطاء والبذل، إذ «لا مروءة لمقلٍّ»، كما تقولُ العرب.
وإذا هطل عليك الشعر، نالك ربيع جماله في «المروءة»، ولا تبعد المعاني عن النثر.
فها هو أبو الطيب المتنبي، يتحدث عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه:
ألِفَ المروءة مذ نشا فكأنه
سُقي اللِبانَ بها صبياً مُرضَعا
وتأمل كيف تُطرِبُ السجايا الحميدة، أهل الخلق الرفيع، كما سيُطربك حُسن بيتي شاعر النيل، حافظ إِبراهيم (ت 1932):
إنـي لتُطرِبُني الـخلال كريمة
طرَبَ الغريبِ بأوبـة وتلاقي
وتـهزُني ذكرى المروءة والندى
بين الشمائل هِـزَة المـُشتاقِ
وكي لا يخالجك كِبر، عليك أن تخفض جناحك لمن تجالس، فقد بعث شيخ الشافعية في عصره، أبو بكر الإسماعيلي (ت 981)، في أبيات له بتنبيهاتٍ لطيفة، لأصحاب النفوس الظريفة، لكنه التزام بما نبه إليه من المروءة، إذ قال:
إذا جَلَسْتَ وكانَ مثلُكَ قائماً
فَمِنَ المُروءَة أَنْ تَقُومَ وإنْ أبَى
وإنْ اتكأتَ وكانَ مثلُكَ جَالِساً
فَمِنَ المُروءة أن تُزيلَ المُتَّكَا
وإذا ركبتَ وكَانَ مثلُكَ مَاشيا
فَمِنَ الُمروءة أنْ مَشيتَ كَمَا مَشَى
أما عالم الأصول، أبو بكر المرادي الحضرمي (ت 1096)، فعَدّ «الكتمان من رأس المروءة وقواعد التدبير»، ولذلك تكاثر في الشعر اعتبار إفشاء السر رزية تلحق العار بصاحبها، فهي ضد المروءة ونقيضها. بعث سيف الدولة الحمداني (ت 967) برسول لأبي الطيّب المتنبي يحمل رقعة فيها أبيات للعباس بن الأحنف (ت 809) يسأله إجازتهما:
رِضاكَ رِضاي الَّذي أوثِرُ
وَسِرُّكَ سِرّي فَما أُظهِرُ
أَمِنّي تَخافُ اِنتِشارَ الحَديثِ
وَحَظِي مِن صَونِهِ أَوفَرُ؟
فإنْ لم أصنه لبُقيَا عَلَيكَ
نَظَرتُ لِنَفسي كَما تَنظُرُ
فردَّ عليه المتنبي بأبياتٍ جعل المروءة فيها تمنعه من إفشاء السر:
رِضاكَ رِضاي الّذي أُوثِرُ
وَسِرُكَ سِرّي فَما أُظْهِرُ
كَفَتْكَ المُرُوءَة ما تَتّقي
وَآمَنَكَ الوُدُ مَا تَحْذَرُ
وَسِرُكُمُ في الحَشَا مَيّتٌ
إذا أُنْشِرَ السّرُ لا يُنْشَرُ
كَأنّي عَصَتْ مُقْلَتي فيكُمُ
وَكَاتَمَتِ القَلْبَ مَا تُبْصِرُ
وَإفْشَاءُ مَا أنَا مُسْتَوْدَعٌ
مِنَ الغَدْرِ وَالحُرُ لا يَغدُرُ
ولا تظن، سيدي القارئ الكريم، أن المروءة سهلة المسلك، يسيرة التبني، بدلالة قول خالد بن صفوان: «لَوْلَا أَنَّ الْمُرُوءَة تَشْتَدُّ مُؤْنَتُهَا وَيَثْقُلُ حِمْلُهَا مَا تَرَكَ اللِّئَامُ لِلْكِرَامِ مِنْهَا مَبِيتَ لَيْلَة، فَلَمَّا ثَقُلَ مَحْمَلُهَا وَاشْتَدَّت مُؤْنَتُهَا، حَادَ عَنْهَا اللِّئَامُ، وَاحتمَلَهَا الْكِرَامُ».
إنَّ المروءة، تحتاج إلى همم عالية، وصدورٍ عميقة، وقلوبٍ طاهرة، ومناقب خيّرة، ولا تعيش دون سِقاية ورعاية وتربية وتهذيبٍ وجهدٍ وحلم وأدبٍ وأخلاقٍ، وإلا فإنها تجعلنا نستحيلُ مغيباً لا يُشرق، وغيمة تحجب الضوء ولا تُمطرُ، ونهاراً متهالكاً في يومٍ ناقصٍ من أعمارنا، ونحو هذا المعنى مسبوك في أبيات الحصين بن المنذر الرقاشي:
إنَّ الْمُرُوءَة لَيْسَ يُدْرِكُهَا امرؤٌ
وَرِثَ الْمَكَارِمَ عَنْ أَبٍ فَأَضَاعَهَا
أَمَرَتْهُ نَفْسٌ بِالدَّنَاءَة وَالْخَنَا
وَنَهَتْهُ عَنْ سُبُلِ الْعُلا فَأَطَاعَــهَا
ونحوها بيت نسب لغير شاعر:
إذا المرءُ أعيتهُ المروءة ناشئاً
فَمَطْلَبُهَا كَهْلا عَلَيْهِ شَدِيدُ
وأجمل بما دبجه ابن المقفع بقوله: «إن من الناس من لا مروءة له؛ وهم الذين يفرحون بالقليل ويرضون بالدون». أما قليل ابن المقفع، فهو ما يأتي بالخسة ولو عده صاحبه كثيراً، ولذلك يقول: «إن المنازل متنازعة مشتركة على قدر المروءة؛ فالمرء ترفعهُ مروءتهُ من المنزلة الوضيعة إلى المنزلة الرفيعة؛ ومن لا مروءة له، يحطُّ نفسهُ من المنزلة الرفيعة إلى المنزلة الوضيعة. إن الارتفاع إلى المنزلة الشريفة شديدٌ، والانحطاط منه مهينٌ؛ كالحجر الثقيل: رفعه من الأرض إلى العاتق عسِرٌ، ووضعه إلى الأرض هينٌ. فنحن أحق أن نروم ما فوقنا من المنازل، وأن نلتمس ذلك بمروءتنا». ونقيض حامل المروءة هو اللئيم، «إن أحسنتَ إليه لم يشكر… لا ينفعك من وجه إلا ضرك من وجوه». الإحسان الذي يأسر الأشراف، ولا يعبأ به الأنذال، ولله ما أحسن وصف أبي الطيب لقيمته، إذ يقول:
وقيدتُ نفسي في هواك محبة
ومن وَجدَ الإحسان قيداً تقيدا