يبدو أننا كعرب تعلقنا بالقديم، استطراباً للأمجاد التي لم نعش منها شيئا وتحدثنا عنها كتبا بيننا وبينها، وربما بين صدقها، خرط القتاد.
تعلقنا بالصفر لا علاقة له من قريب ولا من بعيد بالتواضع، بل لأننا فيما يقال اخترعنا الصفر، بقينا نسوّق مزاياه، ونعدد حسناته، حتى لزمناه ولزمنا، وأحاط بنا إحاطة السوار بالمعصم، والظفر باللحم.
ارتبطنا بالصفر إنتاجا وتعليماً وتنمية، وما تقرير التنمية العربي السابق، أو الذي يعد في الخفاء خلال الأيام الجارية، ببعيد عن الصفر.
أحد معالم التعلق والافتتان بالصفر، الترويج للصفر المئوي.
في تعاطينا مع الأشياء جلنا الأعم يؤمن بقاعدة: مئة في المئة… أو صفر في المئة! ولئن مئة في المئة متعذرة بالضرورة والطبيعة البشرية والحياتية، فما حيلة المضطر إلا ركوب الصفر. لكن الفارق أن الاضطرار هنا، من صناعتنا وحدنا، دون أن يساهم أحد أو ظرف أو واقع في حياكته.
كثيراً ما سئلت ويسأل غيري عندما يشمر عن ساعديه بغية العمل على موضوع أو حسم قضية أو الخوض في مشروع: هل تستطيع أن تقوم بهذا الدور دون مؤثرات؟ هل أنت قادر على تحقيق نتيجة ايجابية تصنعها دون تدخل رسمي؟!
إذا لم يكن الجواب نعم.
هذه الرؤية تتضاعف بالذات عندما يكون الحديث يتعلق بالمجال الإعلامي، والصيغة دائماً: هل تستطيع أن تقدم برنامجاً تطرح فيه ما تريد بحرية كاملة؟! هل أنت قادر على تقديم إعلام بعيداً عن تأثير الرسمي؟! هل بإمكانك أن ترينا إعلاماً لا تفكر عند تقديمه في الرقيب؟ ألا تقدم عملك المهني وأنت توقد نار الرقيب الداخلي فيك، ثم ألا تسطلي بناره؟!
الأجوبة بالتأكيد، لا أستطيع أن أقدم إعلاما حراً 100 في المئة، لأن لا وجود لإعلام حر بهذه النسبة في أي مكان في العالم، حتى هذه اللحظة ولحظات بل سنوات مقبلة. ولا ندري ما يحمله المستقبل لبني البشر. ولا نستطيع أن نقدم إعلاماً بعيداً كل البعد عن تأثير الرسمي في عالمنا العربي بالذات، وإن قدمناه بعيداً عن تأثير الرسمي، فإننا سنقع في حبائل تأثير طرف آخر، فهو إما أن يكون حزباً أو جماعة أو أيديولوجية لا تنتصر إلا لأشخاص في سدة هذه المجموعة أو تلك، وبالتالي “كأنك يا أبو زيد ما غزيت”.
والرقيب في دواخلنا أكثر من كريات الدم الحمراء والبيضاء مجتمعة، لكننا نأمل أن يكون غداً بحجم أحد اللونين، ثم بعد غد بحجم أقل، وفي اليوم التالي يقل في طريق الاضمحلال.
المئة في المئة لا وجود لها بين بني البشر، ولكننا لن نرضى أيها السادة بالصفر بالمئة. سنعمل لنعيش، ونتحرك لنبصر الشمس، ونفتح النوافذ لنستنشق الهواء. لأن أجواءنا غير نقية، فلا يعني أن نموت خنقاً أو لانعدام الأوكسجين، فالتنفس بهواء فيه شيء من التلوث خير من الموت في جو صحي يفتقر للهواء أصلاً!
من لا يعمل لا يخطئ والذين يحاولون أكثر ايجابية من أنصار السكون بدعوى عدم توفر الأجواء المناسبة، وجماهير التخذيل، الذين يروجون للصفر، لا حباً فيه بل لأنهم أدمنوا السكون والدعة، واستعذبوا النوم، واقنعوا أنفسهم بأن اليقظة غير ممكنة.
جميع الحقوق محفوظة 2019