المصدر: العربية. نت
د.عبدالرحمن الجديع – كاتب ودبلوماسي سعودي سابق
لفت انتباهي مقال الأستاذ تركي الدخيل في جريدة “الشرق الأوسط” بعنوان “بالحب جئتكم وبه ألقاكم” يوم الأحد 6 يناير، حيث تدفقت فيه المشاعر الراقية المضمّخة بالحب والمودة التي طالما تميز بها الدخيل.
بيْد أنّ المقال العامر بالجماليات، تطرق إلى موضوع شد انتباهي ودفعني للكتابة عنه، وبخاصة جملة “ضع ثقتك بمن يستحق” ذات الدلالات العميقة والمتطلبات الصعبة. وسأحاول أن أضيء على بعض الجوانب المتعلقة بها، إنما قبل ذلك لابد من قول شيء عن شخصية السفير المعيّن تركي الدخيل لدى دولة الإمارات العربية المتحدة، خصوصاً وأنه على وشك خلع رداء الصحفي وارتداء البردة الدبلوماسية.
وبصرف النظر عن مقولة طه حسين المشهورة بأنّ الصحافة تلعب دوراً كبيراً في إفساد الأدب، فإنّ الصحافة، بل ريب، تمثل منبراً فكرياً وثقافياً، وتسهم في صياغة المواقف والتأثير على الرأي العام. وتختلف الدبلوماسية عن الصحافة، لأنها هي جوهر الاتصال الرسمي في العلاقات السياسية بين الدول، ولأنّ الدول من خلال هذه الأداة تؤكد حقها في السيادة والاستقلال وفي المشاركة والإسهام في مختلف أوجه نشاطات المجتمع الدولي. لأجل ذلك تعد الدبلوماسية وسيلة لترسيخ مكانة الدولة الطبيعية بين أعضاء الأسرة الدولية، وقد تعددت وظائفها وأصبح أفق العمل الدبلوماسي يتجاوز الوظيفة التقليدية للدبلوماسية، بحيث يأخذ بعين الاعتبار الاتجاهات الفكرية والمفاهيم السياسية الحديثة التي تؤكد علوّ كعب المصالح المشتركة بين الأمم. ومع هذا لا بد من التنويه بأنّ الصحافة الراقية تتحلى بروح المسؤولية وتحترم القيم الإنسانية الراقية، وهو ما كان تركي الدخيل يعضّ عليه بالنواجذ.
لقد عرفت الدخيل منذ ما يزيد عن عشرين عاماً، عندما كان شاباً صحفياً يتمتع بأخلاق كريمة وروح مشرقة وطموحة في ارتقاء سلالم العلا. كان يغطي اجتماعات المجلس الوزاري لمجلس التعاون لدول الخليج العربي، وعندها كنتُ مديراً لإدارة مجلس التعاون بوزارة الخارجية. كان للدخيل حضور مؤثر وجالب للراحة، وبسبب ذلك توطدت صداقتي به وبقية أسرته، وتعرفت على الكثير من مناقبيته الفذة.
كان ذلك قبل إطلالته في برنامج “إضاءات” الذي قال عنه في مقاله بأنه جعله صوتاً وصورة في كل بيت في عالمنا العربي، وهذه حقيقة ساطعة، إذ أصبح “إضاءات” مدوَّناً على الكثير من أجندة المشاهدين، وأضحى البرنامج أحد المحفّزات الإعلامية المضيئة التي كان لها انعكاسات إيجابية على التفاعلات المجتمعية، من حيث المعرفة والتثاقف مع الآخر وتسليط الأضواء على الذات العربية. ولعل من نافلة القول إنّ تركي الدخيل في مهنته الصحفية كان مبدعاً تميز بصفاء الفكر، وسعة الأفق، ومصداقية الكلمة، والإنسانية المتسامحة المنفتحة.
الثقة، كما أعرب عنها مقال الدخيل، تعد من أعظم وأرقى الصفات، ومن أصعبها أيضاً، وهي مطلب سلوكي نفسي، ذلك لأنك غني بالآخر، كما يقال، وبه تحقق ذاتيتك، وتنال اعترافاً بوجودك ككائن فعّال. ومع ذلك ينبغي على الثقة أن تكون مقرونة بالحذر والتيقظ والمتابعة، خصوصاً وأنّ المرء الذي طوقته بثقتك هو بشر، والبشر معرضون للضعف، ومنهم من يتسم بنكران الجميل، ويعود ذلك إلى الصفة البشرية الخاضعة لنفوذ الغرائز.
بيْد أنّ ذلك لا يمكن تعميمه على الجميع، فالثقة عند بعضهم جوهرةٌ تتضاعف قيمتها مع مرور الزمن وتداول الأيام، فالمرء الذي يقدر الثقة هو ذلك الرجل الذي تربى على حب الخير في الناس وحسن الظن بهم وعدم الشك بما يخفون وما يعلنون؛ نزولاً عند القول المأثور “احمل أخاك على سبعين محملٍ حَسن”.
من هنا لا بد من الحرص على اختيار الإنسان الجدير بثقتك، وأنه يحمل بين جنباته مشاعر محبة للغير واحتراماً لأنظمة العمل، وأنه يتسم بالمصداقية ونزاهة القول والكفّ عن الأذى، وعلى المرء أن يكون خبيراً بمعادن الرجال وخصالهم، وأن يكون قادراً على كشف الزيف والتصنع واستكشاف خِلة الآخر قبل أن تكشف عن نفسها، وهو ما يرشدنا إليه الشاعر زهير بن أبي سلمى: “ومهما تكن عند امرئ من خليقة، وإن خالها تَخفى على الناس تُعلم ”.
لقد رأى بعض الشعراء أنّ الوفاء أصبح فعلاً ماضياً ويعد من المعادن الثمينة النادرة في طبائع البشر، حيث مضى شاعر يقول: “وزهَّدني في الناس معرفتي بهم، وطُول اختباري صاحباً بعد صاحبِ. فلم تُرني الأيامُ خِلاَّ يسرُّني بَواديه إلا ساءني في العواقبِ”. ويقول آخر في هجاء الجُحود: “وكم علمته نظم القوافي فلما قال قافية هجاني”، ومع ذلك يبقى الوفاء قريناً باحتراف الشكر وديدناً أثيراً ملاصقاً للكبار .
الوفاء ثقافة النبلاء، والعرفان بالجميل هو ملح الرجال. ولا بد في العمل الدبلوماسي من إسناد الأمور إلى رجال ثقات تمّ امتحانهم، ولديهم المعرفة وسعة الاطلاع وحسن المقاربة والدراية في الشؤون الدولية، خصوصاً وأنّ المرحلة الحالية التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط عموماً والدول العربية، من تحولات مهمة في مسارات الدبلوماسية الثنائية للدول الإقليمية والسياسات الدولية في المنطقة ككل، تحتّم على الدبلوماسية السعودية اتخاذ توجهات وإجراءات جديدة تتجاوز الوظيفية التقليدية والدور المألوف للعمل الدبلوماسي، بحيث تنكبّ على مواكبة الديناميكية الجديدة في السياسة الخارجية التي ينتهجها العهد الجديد للمملكة، للحصول على أفضل فعالية ممكنة لخدمة المملكة، والدفاع عن مصالحها، وإبراز دورها الريادي، وجعلها على الدوام منارة لامعة في سماء الله الفسيحة.