عبدالرحمن الراشد: صحافي كل العصور
تركي الدخيلتتغير الوسائل.. ويبقى الحدث هو الأهم..
أن تكتب صفحتين عن رجلٍ اعتاد أن يختصر الكتاب في سطرين، هي مهمة مستحيلة، ولكنّي تعلمت أنّ العِبرة قد تكون في الرحلة ذاتها، لا في إدراك الغايات البعيدة. لهذا فأنتم مدعوون لرحلة واسعة؛ في كتاب أستاذ جيل، صحافي مشاكس، وإداري شغوف، والصديق الأبيض، الأستاذ، عبدالرحمن الراشد؛ من البدايات البعيدة إلى الأفق الواسع. تتغير معه الوسائل، ويبقى الجوهر هو الأهم.
خبره الأول كان رياضياً… ولم يدخل من بابها!
لكل ذكرياته مع كأس الخليج، ولكل فريق مباراته الكبيرة التي يحتفل بها، وإن لم تعن كثيراً في نقاطها الثلاث، ولا أتابع مباريات المنتخب السعودي مع نظيره الكويتي، إلا وأتذكر الرجل الذي أخذته مباراة السعودية والكويت إلى عالم الصحافة الورقية، ومن ثم إلى شاشة التلفاز، لتترجم مقالاته -على حد اتهام كارهيه وافتخار محبيه- باكراً في البيت الأبيض!
قبل أن يكون الأستاذ عبدالرحمن الراشد، «شخصية العام الإعلامية»، في منتدى الإعلام العربي الخامس عشر الذي انعقد في دبي، قبل سنوات، أو الفائز في فئة المقال الصحافي في منتدى الإعلام السعودي، الذي اختتم في الرياض قبل يومين، فإن بداية رحلة الرجل، القامة، الهادئ، الوقور، ذي الشعر الأبيض، كانت في أزقة وحواري الرياض، التي ولد بها عام 1956.
كان الفتى المشاغب شغوفاً بتفسير الأحداث، ونشيطاً في قراءاته الأدبية، وفوق ذلك كله مهووساً بصناعة الخبر، فقد ذهب بمسجله الصغير، وجسده النحيل، لحضور مباراة بين السعودية والكويت، ليفوز بعشرة لقاءات صحافية مع اللاعبين، عاد بها سعيداً لمدرسته المتوسطة، لكن أستاذه القدير محمد الحسيني كان له رأي آخر:
– ما رأيك يا عبدالرحمن أن تذهب بهذه المادة الصوتية، إلى جريدة (الجزيرة) في شارع الناصرية، وتبيع عليهم هذه المادة الحصرية الساخنة؟
وكان للفتى الإعلامي بالفطرة، ما أراد، فقد ربح الصفقة الأولى، وهو في مقاعد المرحلة المتوسطة!
وإذا كانت المقابلات الصوتية، يمكن أن تكون مادة جيدة للصحيفة الكبيرة في شارع الناصرية؛ فإن الروايات المصرية التي كانت تباع في المكتبات والدكاكين الصغيرة بالرياض، كانت تغذي ذهن الفتى الوقاد، وتسلب الصورة لُبّه، فتتشكل معالم مهنية صحافية، في عقل الصبي الطموح، وتنسجم قراءاته في الرواية، مع شريط فيلمٍ سينمائي، وربما اختصرت الصورة بقطعة شعرية، أو تحفةٍ أدبية.
وما إن أنهى دراسته الثانوية، حتى توجه نحو الولايات المتحدة، للدراسة في الجامعة الأمريكية، متخصصاً في الإعلام المرئي. سكنه هذا التخصص، برغم عودته إلى الصحافة الورقية، بعد التخرج. لم تكن طفرة الصورة، آنذاك قد بدأت. مجرد تلفزيونات رسمية. التنافس الفضائي لم يبدأ بعد.
أدار مكتب جريدة (الجزيرة) بواشنطن منذ 1980، إذ يعتبر الراشد تجربته في (الجزيرة) نقطة انطلاقه الأساسية… الجريدة التي دخلها متدرباً في 1973، والمرحلة التي يقول عنها ضاحكاً: «كنت الوحيد الذي لم يدخل مع الكبار، إلى الصحافة من باب القسم الرياضي».
يشرح تجربة السبق الصحافي لطالب المتوسطة، بتوسع، قائلاً: «عام 1973 قامت الجريدة بنشر المقابلات، على مدى ثلاثة أو أربعة أيام، وكنت أفاخر بها، وأحمل النسخ معي إلى المدرسة. معظم إجازاتي الصيفية، كنت أعمل فيها في شركاتٍ مختلفة، لكن في ذلك العام، طلب مني وكيل المدرسة، أن أذهب وأقضي دورة صحافية في جريدة (الجزيرة) لمدة شهرين، فذهبت وعملت في الجريدة، مع اثنين من زملاء المهنة، أذكرهما؛ منصور الصرامي، وعبدالعزيز الدخيل. حينها كان رئيس التحرير، خالد المالك، وسكرتير التحرير، عثمان العمير. كنتُ في أواخر المرحلة المتوسطة. خالد المالك، كان معارضاً لعملي في الصحافة، لصغر سني آنذاك، ومعه حق، عثمان العمير، كان متحمساً. عملت معهم بنظام القطعة. كلفوني بوظيفة الذهاب إلى الوزارات، وإحضار الأخبار من إدارات العلاقات العامة وكتابتها، ففعلت، كنت أراجع الوزارات المختلفة وآخذ منهم الأخبار، استمريت معهم لفترة». خمس سنوات والراشد يرى كيف يصنع الخبر، كيف يكون العنوان معضلة وترياقاً في ذات السطر؟ ليكون ذلك خير تأهيل، قبل مرحلة الانتقال إلى التغطية الدولية، من خلال إدارة مكتب (الجزيرة) في واشنطن، ثم الانتقال إلى الصحافة الدولية، في لندن.
من التجربة الأمريكية إلى الأوروبية
في العام 1985، انتقل الراشد إلى لندن، للعمل في مجلة (المجلة)، قادماً من أمريكا، إلى أوروبا، ثمة مفارقات ثقافية، يضع الأستاذ أصبعه عليها، مفسراً: «أنا معجب بأوروبا من الناحية الثقافية، عُرض علي العمل، وأُعطيت مهلة أسبوع للتفكير، أخذ مني الأمر يومين، لأقرر بعدها الرحيل من جديد، لتكون تلك نقطة تغيير أخرى في حياتي؛ الانتقال إلى أوروبا التي لا يربطني بها رابط نفسي. عثمان العمير، مغرمٌ بالتجربة الأوروبية، نبهني إلى أنها ستكون تجربة لن أجدها في أي مكانٍ آخر، معللاً ذلك بالمكان وطبيعة العمل. انتقلت إلى أوروبا بعد شهر».
كانت الرحلة مع مجلة (المجلة)، نائباً لرئيس تحريرها آنذاك، العمير. يصف عبدالرحمن الراشد، هذه المهمة، بالتحدي الكبير، ويعلل: «القارئ المتجه إلى شراء (المجلة)، عليه أن يجد محتوى مختلفاً، يستحق عناء الشراء؛ لأنها بحاجة إلى موضوعات شاملة وعناوين متنوعة، وفقاً لتبويبها وزمنها».
بقي الراشد في مجلة (المجلة) سنتين، نائباً لرئيس التحرير، ولما أصبح العمير رئيساً لتحرير (الشرق الأوسط)، صار الراشد، رئيساً لتحرير (المجلة) في العام 1987. كانت (المجلة) سيدة للمجلات السياسية العربية الرصينة، خلال تسنم الرجل ذروة تحريرها. ومن حسن حظه أن نهاية هذه المرحلة كانت مع بداية مرحلة انحسار قيمة المجلات السياسية، بعد غزو القنوات الفضائية السياسية، التي لم تُبقِ لهذا النوع من المجلات ما يمكن أن تقتات عليه، كل أسبوع.
أما المرحلة التالية في مسيرة الرجل، الذي ينام واقفاً فكانت هي قمة مرحلة النضج المهني، بانتقاله لرئاسة تحرير جريدة (الشرق الأوسط)، منذ 1998 وحتى عام 2003، بعدها انتقل إلى العمل حيث عشقه وتخصصه، في التلفزيون، مديراً عاماً لقناة (العربية) الإخبارية، التي مضى على انطلاقتها نحواً من عام. حينها أجريتُ حواراً معه في إذاعة mbc-fm، اعتبر فيه انتقاله من الصحافة إلى التلفزيون امتداداً طبيعياً لتجربته الصحافية، يصقل عبره، ما اكتسبه من تخصص أكاديمي في الإعلام المرئي، وما مارس من نشاطات تلفزيونية، عبر إنتاج تحقيقات بثت على شاشة mbc، ومقابلات مع الزعماء، أجراها لـ(الشرق الأوسط)، وبثت تلفزيونياً بالتزامن في تلفزيون (المستقبل).
«الشرق الأوسط»… تاج المسيرة
لعله المنصب، الأكثر ضجة، وتفاعلاً، في مسيرة الصحافي، الذي يرى النص مكتوباً على الشاشة فور نشره في الصحيفة، فقد مثلت رئاسته لتحرير (الشرق الأوسط)، رغم نضجها، تحديات حقيقية. فالمنطقة تشهد تحولاتٍ كبرى: عملية السلام المتعثرة، ومحاولات إنعاشها؛ ونشأة المنظمات الإرهابية، على أنقاض سقوط الاتحاد السوفييتي، عبر ما تبقى من الأفغان العرب والمقاتلين الأجانب في أفغانستان، وابن لادن بدأ عملياته الدموية ضد أمريكا، في نيروبي، ودار السلام، عام 1998، وتبنى تنظيم القاعدة لأول مرة، عملية نوعية بهذا الشكل والتكتيك، إضافة إلى صعود الإسلاموية الأصولية في السودان، وآثار ما بعد حرب الخليج، وشرخ العلاقات العربية – العربية، كل ذلك جعل المهمة -تحدياً صعباً- يواجهه الأستاذ الراشد.
صحيفة العرب الأولى، كانت تحت أعين الزعماء والملوك، يسخطون من أخبارٍ، ويفسرون أخرى، ولهم تحليلاتهم، ولأجهزتهم الإعلامية، والأمنية، في تفسير ما ترمي إليه الجريدة، هنا وهناك! وَرِثَ الراشد، من سلفه عثمان العمير، الذي ترك لصديقه الأثير، رئاسة تحرير جريدة (الشرق الأوسط)، وتتضمن المهمة، التعامل مع عشرات قوانين المطبوعات العربية، ومثلها من وزراء الإعلام، الذين باتوا يراقبون، بأنفسهم، الصحيفة الخضراء. لا يمكنك المرور بسهولةٍ، من مقص الرقيب العربي، فالجميع يعلم قيمة هذه المطبوعة وأثرها، فخطها السياسي والتحريري، سابق لبقية المطبوعات، إذ استلهمت التجربة الغربية، في معالجتها المستنيرة للأحداث، من خلال نَفَسٍ ليبرالي في الموضوعات. وللحق فإن رئاسة تحرير عبدالرحمن الراشد لـ(الشرق الأوسط)، من ألمع تجاربه المهنية، وبخاصةٍ في تغطية التحولات السياسية بالمنطقة والعالم، التي بلغت الذروة في 11 سبتمبر، وكان آخر الأحداث الساخنة قبل استقالته، سقوط نظام الرئيس العراقي، السابق، صدام حسين، عام 2003، على يد القوات الأمريكية.
من هنا، كان حوار الراشد، مع الرئيس الأمريكي السابق، جورج بوش (الابن)، مدوياً، في الأوساط المحافظة، وأعترفُ شخصياً، بأن قدرة عبدالرحمن الراشد، على الحوار، والإقناع، بهدوء، ما زالت إلى اليوم لافتة، فالرجل رابط الجأش، يداري بابتسامته ما يريد، حتى يعطيه محاوره مبتغاه، وعندما تقاطعه مرتين، يكتفي بأن يحرك القلم من يد إلى يد، وحين يمكسه بيد واحدة، فلتكن مستعداً لإحدى الحجج الواقعية التي يقولها الراشد… الحجج التي -لفرط واقعيتها وصدق حدوثها- جعلت المحافظين، مقتنعين بأن صانع القرار في المكتب البيضاوي، يقرأ بتمعن ما يكتبه عبدالرحمن الراشد في عاموده الصحافي، اليومي، الذي شرّق وغرّب، شهرةً وذيوعاً!
الراشد والعمير… وفاق عاصمتين
في مادةٍ كتبها الأستاذ عبدالله الهيضة، يدرس فيها رحلة الراشد ومجايليه، ينقل عن عثمان العمير وصفه لعبدالرحمن: «هو رفيق عمر، وإن كنت أكبر منه سناً، وكان لي الشرف ترافقنا بصحيفة (الجزيرة). انتقلت إلى لندن، وانتقل هو إلى واشنطن، وأصبح مسؤولاً للجريدة في واشنطن، وبقيت أنا في لندن»، قال لي العمير جملة استفهامية: «أتعلم ما الغريب؟… أنا والراشد نختلف في شخصيتينا -بشكل غير عادي- في العادات والتصرفات والمواقف، لكننا نتفق في الصداقة والاحترام، والمحبة بيننا، وكنا نتراسل في ذلك الوقت بين عاصمتين»… يضيف عثمان: «حين أُبعد خالد المالك، عن صحيفة (الجزيرة)، تضامنا معه وأضربنا، أنا والراشد، إضراباً صامتاً، لكن أُبقينا في مناصبنا، رغم أننا لم نتعاون بشكل إيجابي، مع القيادة الجديدة».
عندما أسس العمير والراشد، شركة OR ميديا، كان الراشد يريد إبقاء معرفته بالإعلام المرئي ودراسته لها ضمن حالة تجريب مستمرة، فهي في الأصل هوايته الدائمة، وتخصصه الجامعي. بدآ مشروعهما معاً، الراشد، الشريك العاشق للتلفزيون، والعمير الذي لا يملك ذات الشغف التلفزيوني. يقول العمير: «إن زيارة إلى دولةٍ جمعتهما، جلس الراشد، يوثق أحداث الزيارة بالفيديو»، ولم ينكر العمير عدم تماهيه مع التوجه كله.
التباين السابق، برر لاحقاً تفرّد الراشد بملكية الشركة، وخروج عثمان العمير منها… تباينت الآراء، وبقي الود عنواناً للكبار، والحب شعاراً لعلاقاتهم.
الرهان على الأفلام الوثائقية، دراسة الأحداث، اختبار تفاصيل التفاصيل الصغيرة، واستضافة من عاشوا الأحداث، كانت منطقة عبدالرحمن الراشد التي انتَظَرَها طويلاً، ومارسها من خلال شركته للإنتاج الوثائقي، ومن منا لا يتذكر وثائقيات لافتة، مثل: حرب الخليج، والصراع العربي الإسرائيلي خلال خمسين عاماً، ووثائقي الملك فهد، ووثائقي الملك عبدالله، وصولاً إلى وثائقي: «كيف واجهت السعودية القاعدة؟».
الطريق صعب… لكنني نجحت
يصف زميلنا الراحل المبدع، عمر المضواحي -رحمه الله- الراشد، وتجربته، بحروفٍ مختصرةٍ أنيقة، يقول: «على مدى ثلاثة عقود ظل عبدالرحمن الراشد يرتقي صعوداً كل سلم ينصب أمامه، بلا كللٍ أو مللٍ ليتم مهمة نشر عناقيد القناديل الملونة، ومصابيح أعمدة الإنارة، ليضيء دروب وتلافيف زوايا شارع الصحافة في السعودية… هذا الشارع كان ولا يزال مرتادوه في أَمَسِ الحاجة إلى كل قبسٍ من نور، يحمل بصمة هذا المهندس، الذي أبيض شعره، كراهب منقطع، في خدمة النور الإعلامي لبلده الكبير».
في أي مجلةٍ، أو جريدةٍ، أو قناةٍ… كان عبدالرحمن الراشد، صحافياً يشكل نسيجاً وحده. لا يخلو جسمه النحيل من عبقرية تجري في دمه، محملة بـ كروموسومات دهاء تحتاجه المهنة، وخلايا ذكاء، وصفائح قدرة على اللعب بالبيضة والحجر معاً، ودأبٍ على متابعة تفاصيل التفاصيل، ودقائق الأمور، حتى لو كان الموظفون في المؤسسة التي يديرها، يزيد عددهم عن الألف.
كان الراشد، دوماً وأبداً، الخيار الأول عند رؤسائه وأعضاء مجلس الإدارة. فإذا ما حزب الأمرُ، وحانت لحظة الاختيار، صار عبدالرحمن هو السَهْمُ المُعَلَى في الولاء، والورقةَ الرابحةَ في العطاء، والجوكر الذي لا يُخَيِّبُ أصابعَ حامِلِه أبداً.
كانوا يعلمون، أن لكل عبقري يفري فريةً، ضريبةً باهظةً، وكانت ضريبته على الدوام أقل شأنا من أن تذكر. فهو صنفٌ نادرٌ، ينطبقُ عليه المثل الشهير: (ما خف وزنه، وغلا ثمنه). تتقاطع في موهبته كل متناقضات العبقرية، فهو يملك القدرة، على إشعال أكبر الحرائق، في أثواب وساحات خصومه… ولا يستعجل النصر، فيربح أخيراً!
لا يجيد أحدٌ قدرته الفريدة في كتابة الجملة الصحافية القصيرة، ولا ملكةَ التقاط أفكار مقالاته السياسية وتأثيرها، إنها بحق تماثل قدرة كتيبة مدفعية، وراجمة صواريخ لا ترحم. وبعد أن ينهي مهمة كتابة مقاله، في أقل من 500 كلمة، تجده دوماً في مزاج رائق، واضعاً قدماً على الأخرى، بوجه معجون بماء الرضا والانتصار، فالعمل اليومي عند الأستاذ الراشد، وإن كان تقليداً، انتصارٌ لا يتحقق، إلا بإتمامه. يتنفس هدوءاً، ويزفر تهذيباً، وعلى محياه دوماً، ابتسامة طفل شقي.
صراعات وتيارات… على مسافة واحدة
لم يكن اسم الراشد، وتجربته الصحافية، والكتابية، محل نقاشٍ وسجالٍ، مع رموز الإسلام السياسي، فحسب، بل واختلف معه القوميون، واليسار، وتياراتٍ أخرى محافظة. للراشد موقفه المنسجم مع المبادرة العربية، حول السلام مع إسرائيل، بما لا يخل بمصالح الفلسطينيين. يقول نصاً: «إنْ كان المشروع حقاً يعطي الفلسطينيين دولة وأرضاً وسلطة فإن العالم سيدعمه، وإن كان مجرد مشروع لمنح إسرائيل شرعية على ما تبقى من أرض فلسطين فإنه لن يُبحر بعيداً»، ثم يتهمونه بأنه «أمريكي الهوى»! بينما أمريكا بنظره مثل الشركات الكبرى، لم تبن على أيديولوجيا وإنما القرارات تتخذ بصيغٍ أكثر حيويةً مما تتوقعه التيارات الإسلاموية والقومية. يقول: «الأمريكان مخطئون في حق الفلسطينيين وفي حقنا وفي حق السلم والعدل الدوليين، لكن كل هذا لا يعني أن نعتبر أمريكا عدواً».
بقيت صورة عبدالرحمن الراشد، مع الرئيس الأمريكي جورج بوش محل نقاشٍ طويل، في الساحات والمنتديات والصحف… إنها صورةٌ، تختصرُ الاختلافَ، بين توجه الراشدِ، في التحليل السياسي، مع التيارات المناوئة لأمريكا في المنطقة، مع أنها صورة على هامش حوار صحافي!
اتفاق على دماثته… واختلاف على استفزازه!
سفير السعودية السابق في اليونسكو، الدكتور زياد الدريس، يختلف ويتفق مع عبدالراحمن الراشد، يضع خطوطاً للاتفاق والاختلاف، يقول في كتابةٍ عنه: «الاتفاق مع عبدالرحمن الراشد يمليه عليك ذهنك المسترخي أمام هدوء ودماثة الراشد الشهيرة، أما الاختلاف معه فيمليه عليك عقلك المتحفز والمستفز من آراء الراشد الصريحة والمواجهة، التي لا ترحم الانطباعات والصور النمطية المستوطنة في أذهاننا، فتصبح جراء هذا الاستفزاز الراشدي الماهر مرتبكة لا تستطيع أن تعمل بأقصى من نصف قدرتها، عبدالرحمن الراشد هو من أنجح الصحفيين العرب خلال محطاته الصحفية المتنوعة، التي مرت على القرّاء بهدوء شاق وهو الآن من أميز كتّاب الأعمدة العرب، حيث صنع نفسه كذلك أمام القرّاء دون أن يكون صديقاً لرئيس أو مِزِّيحاً لملك أو خصيماً لفنان، عبدالرحمن الراشد وصل من المهارة الكتابية للعمود السياسي اليومي أن كلَّ قارئ له يظن أنه يمكن أن يكتب مثله».
ثم يختلف معه في النتائج السياسية، والاختلاف حق مشروع بالطبع، يقول الدريس: «لماذا لا يكون موقفنا من الأصولية الأمريكية الحاكمة مثل موقفنا من الأصوليات المضادة لها؟ لماذا نستمر في سذاجة حب أمريكا كلها أو سذاجة كره أمريكا كلها؟ لماذا لم نستطع حتى الآن وضع آلية وجدانية تميّز بين أمريكا الحكومة/ الشرطي.. وأمريكا الشعب/الإنسان؟!»
يواصل زياد، باحثاً عن أدلة وشواهد، يمكن أن تنصره على الراشد: «يقول المفكر فهمي جدعان في كتابه الأخير المعنون بـ (في الخلاص النهائي): «أما الليبرالية فقد أساء إليها كثيراً ارتباط بعض الداعين إليها بسياسات الولايات المتحدة. وهكذا فقد صارت الليبرالية وعداً يشبه في تحوله إلى مشروع وعد الإسلاميين، أليس من الخسران الكامل يا أستاذ عبدالرحمن إجهاض (الليبرالية) من أجل عيون بوش وابتسامة كونداليزا؟!».
صناعة قناة إخبارية مهمة
حين تسنم الراشد مهمة إدارة قناة العربية بعد عام من تأسيسها، كانت التحديات أمامه كبيرة، المحطة الوليدة أمامها مشوار طويل للدخول في المنافسة، عزم أمره وتوكل، طوال عشر سنوات من الركض في مضمار المنافسة، أسس لتنافس محموم بين المحطات العربية باختلاف توجهاتها وسياساتها التحريرية. يقول فارس بن حزام، في حديثٍ للصحافي عبدالله الهيضة بـ(الشرق الأوسط): «عبدالرحمن الراشد حضر لـ«العربية» ومنذ الوهلة الأولى كانت الصورة واضحة له، فعمل على ثلاثة مسارات: أولها صياغة سياسة تحريرية تتميز بها تختلف عن «الجزيرة»، وثانيها ضخ أكبر كم من الأسماء الشابة غالبيتهم لم يتجاوز الثلاثين عاماً، وهم اليوم ينتجون الأخبار والبرامج والنشرات، وثالثها وضع اسم «العربية» على الخريطة العالمية كمنبر عربي».
يضيف: «شعار «أن تعرف أكثر» قصده الراشد للمعرفة والخبر، فقلّص البرامج وزاد كمية الأخبار، ولكنها أخبار نوعية -والحديث لفارس بن حزام- فتأسست قناة شقيقة هي «الحدث» لتكون منبراً للأخبار السياسية الصرفة، بينما العربية الأم التي خصصت 80 في المائة من بثها أخباراً، لكن صيغتها تحمل أسلوب ونفس الصحيفة، فهناك أربع ساعات يومية للاقتصاد، وأخبار وبرامج للرياضة، وأخرى للطب وبعض من الفن، بل وجعل كل ما هو خبر يستحق الظهور على الشاشة فسيظهر لجذب الجميع، ويبين ابن حزام أن نتائج عمله في «العربية» التي وصل إليها وجدها متطابقة تماماً مع خططه، فسلّم الدفة لزملاء آخرين».
وبالتوازي مع الأخبار السياسية، أدخل الراشد البرامج الرياضية، كان الرهان على بتال القوس الذي يروي تجربته تلك: «وجود البرامج الرياضية الشاملة خلال إدارة الراشد لـ«العربية» كانت مختلفة، وهو أكثر من عملت معهم في حقل الإعلام حرصاً على ظهور الأحداث الرياضية وإبرازها لأنها تستقطب كافة المشاهدين، وعلاوةً على دقته ومتابعته للشأن الرياضي، إلا أنه جعل القناة في جمعها كصحيفة مرئية تغطي مختلف الجوانب، فلبى صنوف الحياة، وإن كانت هذه معادلة صعبة أن تستطيع الإمساك بكل ذلك دون أن تزل القدم».
يواصل بتال، عن الراشد والوثائقيات في المحطة: «استطاع الموازنة بشكل دقيق في إطار الأخبار وحول الأخبار… وشغفه بالوثائقيات، حكاية استثنائية، كون علاقة الراشد أقدم من علاقته بأخبار الشاشة، إذ كان أول إنتاج له في العام 1997، وكان يحكي فصول ما بعد حرب الخليج الثانية، وبعدها بعام أطلق فيلماً وثائقياً عن مرور خمسين عاما على الصراع العربي الإسرائيلي، لأنه يؤمن بفرادة الوثائقيات، فسعى إلى تخصيص ميزانية لإنتاج وشراء الأفلام الوثائقية المتميزة معتمداً على النوع لا الكم خلال فترة إدارته للقناة، رغم أن سماء التلفزيون العامة تحلق بأكبر عدد من ساعات البث للأفلام، لكن الراشد ركز على أن تكون الوثائقيات متزامنة وموجزة معطياً بعداً إيجابياً في تسويق مادته الوثائقية».
تجربة الراشد في قناة (العربية)، هي امتداد لرؤيته، التي يتحدث بها في حوارٍ المذيع الكويتي الزميل، يوسف الجاسم، يعيدها إلى الركضات الأولى، حيث اكتشاف مفهوم الحياة، وتشكيل الموقف من الأحداث، ركائز أساسية استند عليها وهي: «أهمية التنوير للمجتمعات العربية والإسلامية التي تعاني من أزمات ثقافية خانقة، وهذا ما يجعلنا -معشر الصحفيين والمثقفين- نمسك بالقلم كل صباح، كي نقاوم سياط التخلف والفقر والجهل، ومن ثم مقاومة المنظمات والتنظيمات الإرهابية في كل مكان»، وقاد العربية ضمن هذا الخط، وخصص برنامجاً مناوئاً للتيارات المتطرفة تحت اسم: «صناعة الموت»، وأخيراً الجمع بين المعلومة والإمتاع في المادة الصحفية سواء في الشرق الأوسط وحتى الساعة الأخيرة لإدارته لقناة العربية.
في الثاني من ديسمبر الجاري، في وفاة المثقف السعودي الكبير عبدالفتاح أبو مدين، كتب الراشد على حسابه في موقع التواصل الاجتماعي (تويتر) تغريدةً تفيض بالأسى والنستالوجيا، وتعكس أنيناً مكبوتاً، وهمّاً يضيق به صدر الأستاذ الراشد ويطوي عليه روحه، إذ يقول: «في ذكرى الراحل الكبير، أمضيت بعض الوقت اقرأ صفحات مصورة من صحيفة الأضواء السعودية، من الخمسينات في القرن، تشعر بالأسف كيف انحدرت المهنة في عقد واحد، رغم أنه الزمن الذي تقدمت فيه التقنية، وتطور التعليم، وعززت وسائل التواصل الإعلام! ما السبب؟ الأشخاص؟!».
هذا الجواب القصير، على طريقة: «إذا اتسع المعنى ضاقت العبارة»، يختزل جواباً مدججاً بالمعنى، على عادة الراشد، الذي دلّنا في لحظةٍ فارقة على رمانة الميزان، تقييم المحتوى لا الشكل، فلربما كان الطريق هو الطريق، وليس علينا سوى ترقيّة السالك فيه بالأدوات، وتأهيله للتطور المفتوح؛ ليواكب الزمان والمكان إلى الأبد. ربما نحتاج أن نؤمن بالأشخاص، وبقيمة التعريف بهم!
رحلة التعلم: منكم وعليكم ومعكم!
من بيع مادة حصرية سجلت بعد مباراة بين السعودية إلى الكويت في المرحلة المتوسطة، ومن مكتب الجزيرة في واشنطن إلى إدارة أهم صحيفة عربية تصدر من لندن، وصولاً لـ«العربية.. أن تعرف أكثر»، كان من الطبيعي أن يحصل الأستاذ عبدالرحمن الراشد، ليس غريباً أن يحوز الراشد التكريم والجوائز، لكن الكلمة القصيرة جدّاً التي ألقاها في تكريم أخير له بالرياض، ضمن موسم الرياض المتميز، اختصرت الكثير: «أشكر الزملاء الذين تعلمت منهم، والذين تعلمت عليهم، والذين تعلمت معهم»، ولم يبق من المجموعة الأولى كثيرون، لكن كثيراً ممن نراهم اليوم على الشاشة وفي الصحف يفتخرون بأن يكونوا ضمن المجموعتين الثانيتين، ومع الراشد… كل يومٍ جديد، لتعلم جديد.